الخميس، 18 يناير 2024

مسائل التكفير

تكلمت في الحلقات السابقة عن المسائل التي يعذر فيها المخالف والمسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

وهذه المسائل، إنما يراد بها بيان من يستوجب العقوبة قبل قيام الحجة، ومن لا يستوجب العقوبة إلّا بعد قيام الحجة، فقط.

وليس المراد منها بيان من وقع في الكفر ومن لم يقع. 

فتلك مسألة أخرى.

ومسألة التكفير، واضحة في بعض المسائل وضوحاً يمكن للصبي أن يبتّ فيها، وذلك لوضوح الأدلة الشرعية بل والأدلة العقلية والفطريّة في بيان كفر المخالف فيها.

ولكنها في بعض المسائل خفيّة، وفيها نوع من التعقيد، وخاضعة للاجتهاد والرأي، لأنه لا يوجد نص صريح من القرآن أو السنة في البت في الحكم فيها، وإنما يبني العلماء حكمهم على مرتكبها بناء على مدى مخالفة بدعته للكتاب والسنة وأصول الدين، وأثر بدعته في الإسلام. 

وهذا عادة ما يكثر في المسائل التي يُحتاج فيها إلى إقامة الحجة، كما تعتمد على قوة الشبهة التي طرأت على المخالف، فبعض الشُبه قويّة، لأن في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نصوص متشابهات، يكون ظاهرها موافقاً لتلك البدعة، ولم يهتد المخالف إلى تأويلها الصحيح، من المحكم من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبر العلماء بنيّة الشخص في هذه المسائل.

ولذلك نجد أئمة السنة المتقدمين، أئمة أهل الحديث، السلف الأول، يختلفون في تكفير شخص، فبعضهم يقطع بكفره، وأخر يشك فيه، وبعضهم يفرق بين العالم والعامي، فيكفر العالم، ولا يكفر العامّي، والعامّي عندهم، هو من لم يكن متخصصاً في هذه المسائل.

والأمثله من كتب السلف كثيرة، لمن تمعّن فيها.

ولكن كما قلت سابقاً، إنما هذه في المسائل التي يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، لا في المسائل التي لا يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، كون الحجة فيها هو العقل الصحيح والفطرة السليمة.

وهو ما سوف نبيّنه إن شاء الله تعالى.

ونشرع الآن في المقصود، فأقول مستعيناً بالله وحده لا شريك له.

أنني ذكرت سابقاً أن المسائل قسمين:

قسم لا يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة، وقسم يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة.

فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف على قسمين: 

قسم يكفر فيه المخالف فور وقوعه فيها، وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وما يتعلّق بهاتين المسألتين من صفات الله تعالى.

وسوف نفرد هذه المسألة بحلقة مستقلة، نزيدها إن شاء الله بياناً ووضوحاً.

وقسم لا يكفر فيه المخالف، مثل: اللواط والزنا ونحوة ذلك، مما ذكرته سابقاً في حلقة: المسائل التي لا يعذر المخالف فيها. 

وهذا القسم، لا يكفر المخالف فيها، إلا أن يستحلّها، أي: يدعي أنها حلال عند الله تعالى، وبعد قيام الحجة عليها فيها بأنها محرَّمة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 

لأن حرمتها عند الله تعالى، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، وهذا فقط في حكمها عند الله، وأما في العقل الصحيح والفطرة السليمة، فهي محرمة قطعاً، والمخالف فيها مستوجب للعقوبة، دون أن تبلغه حجة.

فبما أن حرمتها عند الله ورسوله، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فلم يكفر مستحلها، حتى تبلغه الحجة بذلك.

والسبب في كفره هنا، أنه مكذّب بآيات القرآن والأحاديث الصحاح المقبولة، وأقول المقبولة، لأن هناك أحاديث صحيحة الإسناد ولكنها باطلة المتن، ويحكم عليها بأنها شاذّة. والمكذب بآيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة المقبولة كافر، لأنه مكذّب لله ولرسوله.

وأما المسائل التي يعذر فيها المخالف، فهي على قسمين أيضاً:

قسم يكفر فيه المخالف بعد قيام الحجة، وإن لم يستحل المخالفة فيها، وهذا ينحصر في فريضة الصلاة، وسوف نفرد حلقة مستقلة إن شاء الله في مسألة كفر تارك الصلاة، ونورد الأدلة هناك.

وأيضاً، خمسٌ من أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الأخر والقدر خيره وشره. 

فهذه المسائل، يكفر المخالف فيها بعد قيام الحجة، وهذه المسائل ليس فيها استحلال، بل إنكار، وهو تكذيب للمُخبر، بما أخبر به.

وقسم لا يكفر فيه المخالف حتى بعد قيام الحجة، إلا بعد أن يستحل، وهذا في باقي أركان الإسلام الخمس، وهي الزكاة والصوم والحج. وباقي شرائع الإسلام من أوامرٍ أو نواهٍ إلهيَّة.

فهذه المسائل، لا يكفر فيها المخالف، إلا 




وسوف أبيّن كل ما سبق في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.



فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف، على قسمين:

القسم الأول: يكفر بها المخالف فور مخالفته فيها، وإن لم تبلغه حجة، لأن العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الحجة فيها، وهذا القسم ينحصر في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد الربوبية، وما يتضمنه من توحيد الملك وتوحيد الخلق وتوحيد الأمر والتدبير.

والقسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بالعبادة، وأهمها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وما يتعلّق بها من الذبح والنذر والصدقة.

والدليل في هذين القسمين، قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)

وقد ذكرت في المحاضرة السابقة والتي بعنوان: المسائل التي لا يعذر فيها المخالف. الأحاديث النبوية الدالة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية، وإن لم تبلغه حجة، فأغنى عن إعادتها هنا.

والقسم الثالث: صفات الله تبارك وتعالى المتعلقة بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتي في عدم الإيمان بها وإثباتها لله عز وجل، قدح في ربوبيته أو ألوهيته، وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والملك، والخلق، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.

والأدلة على كفر من عطّل هذه الصفات، هي الأدلة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية.

وأنبه هنا: أني في الحلقة السابقة بعنوان: المسائل التي يعذر فيها المخالف، ذكرت الصفات التي لا يعذر فيها المخالف، ولكني نسيت أن أذكر الحياة والملك، ولذلك استدركتها هنا.

وأما صفة العلو الذاتي، مع أنها ثابتة بالفطرة، إلا أنه إذا شبّه على المسلم فيها، ولبّس عليه، وكان تعطيله لها ناشيء عن جهل وقوة شبهة، وليس عن كِبر وتعصب واتباع للهوى، فأرجوا أن المسلم لا يؤاخذ بها.

والسبب أن نفي هذه الصفة قد لا يكون من القدح في ربوبية الله وألوهيته، إذا كان العبد مقراً بربوبية الله وألوهيّته.

وقد رأيت أناساً كانوا على الشرك الأكبر والإلحاد في صفات الله تعالى، ثم تابوا عن الشرك وفاءوا إلى الإسلام، ولكن بقيت عقدة التعطيل عندهم ملازمةً لهم، ظناً منهم ألأن هذا تنزيه لله تعالى وتقديس له، منهم: المقريزي والشوكاني وشريكت سنكلجي والبرقعي وأمثال هؤلاء، فقلت: لا أظن الله تبارك وتعالى هداهم إلى توحيده في ربوبيته وألوهيته بعد ما كانوا عليه من الشرك، إلا وهو يريد بهم خيرا، والله أعلم.

وباقي صفات الله تعالى مثل صفة العلو، فإن كان ضلال المسلم فيها ناشئ عن جهل وقلّة بصيرة، وشبهة قويّة عرضت له، ولم يكن إعراضه عن إثباتها كِبرٌ على الحق، وتعصب للباطل، واتباع للهوى، فأرجو أنه معذور غير مأزور.

فرؤوس المعطلة احتجوا بآيات وأحاديث يشتبه على السامع أمرها، كقوله تعالى: (وهو معكم اينما كنتم) وقوله: (وهو اقرب إليه من حبل الوريد) والحديث الذي رواه أحمد وغيره، من أن الله خلق الرحمة. فنصّ على أن الرحمة مخلوقة، ففرحوا بهذا الحديث وقالوا إذا كانت الرحمة مخلوقة وهي صفة من صفات الله فهذا يدل على أن صفات الله مخلوقة.

إذا هناك ما يجعل بعض من لا علم عنده ولا يفقه هذه المسائل، تشتبه عليه هذه المسألة، لأنه فسّرت له على غير تفسيرها الصحيح.

وهو وإن كان لازم قول معطلة الصفات نفي وجود الله تعالى، إلا أنهم لا يلتزمون هذا اللازم، بل هم مقرون بوجود الله تعالى.

وأما إن كان تعطيله لصفات الله تعالى، وإعراضه عن الإقرار بها، ناشئ عن كِبرٍ عن قبول الحق، وتعصّب للباطل وأهله، من المشايخ والأصحاب، واتباع للهوى، فذاك الكافر حقا.

وبما أن الكِبر والتعصّب واتباع الهوى مسألة نفسيّة، لا يمكن معرفتها على وجه الدقّة، لم يمكن البتّ في الحكم بالمخالف في باب الصفات، حتى يجهر بذلك بلسانه، ويقر أنه يعلم أن الحق مع مخالفه ولكنه يريد أن يتبع كبراءه ومشايخه. 

وأما إذا لم يجهر بذلك بلسانها، فإن الحكم يبقى معلّقاً في حقه، بحسب نيّته، وعلى هذا فتجرى عليه أحكام الإسلام، ويٌنظر إليه على أنه مسلم.

ولكن شرط أن يكون مقراً بتوحيد الربوبية والألوهية، فإن لم يقر بهما أو أحدهما؟، فذاك المشرك حقاً ظاهراً وباطنا|ً.

إنما الخلاف والتردد في حق المقر بتوحيد الربوبية والألوهية والصفات المتعلقة بهما، ولكنه لزم التعطيل في باقي الصفات، وأبى الإقرار بصفات الله تعالى لِمَا عرضت له من شُبَه.

وفي باب الصفات تفصيل أخر، وهو:

أن المخالفين في باب الصفات على قسمين: هما: الممثِّلة والمعطلة.

والممثلة قسمان:

الأول: يمثّل صفات المخلوقين بصفات الله تعالى في كمالها الذي لا يستحقه إلا الله تعالى، وهذا لا يقع إلا من مشرك في الربوبية والألوهية، كاذبٌ على الله وعلى رسوله، وهذا مشرك وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد قدح وشرك في ربوبية الله وألوهيته.

والثاني: يمثِّل صفات الله تعالى بصفات المخلوقات بما فيها من كمال أو نقص، فهذا معذور بجهله، لأن علم كمال صفات الله تعالى، لا يدرك إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فإن أصر على قوله بعد البيان فقد كفر كفراً أكبر.

والمعطلة قسمان:

القسم الأول: من يزعم أن الله في كل مكان، ولكنه لا يقول بأن الله حال ومتحد مع خلقه، بل يفصل بينهما، ومن يزعم أن الله تعالى بلا مكان، ويحتجون بالآيات والحديث السابق، فهؤلاء معذورون بالجهل حتى تقام عليهم الحجة.

والقسم الثاني: وهم الحلولية، الذين يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه حال ومتحد مع خلقه، أو يقولون بأن الله تعالى هو الوجود والوجود هو الله، وهذا الاعتقاد لا يقع إلا من مشرك شركاً أكبر، فهذا كافر كفرا أكبر وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد شرك في ربوبية الله وألوهيته.

والقسم الثاني من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف، هي: اللواط والزنا .. وإلى أخره، من الأعمال التي ذكرتها في حلقة المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

فهذا القسم لا يكفر فيه المخالف إلا بعد بلوغ الحجة مع الاستحلال، أي: زعم أنها حلال وليست حراماً.

فلو بلغته الحجة وفعلها ولكنه لم يستحل، اي: مقرّ بأنها حرام في كتاب الله وسنة نبيّه، ولكن لضعف نفسه، وغلبت شهوته، فعلها، فهذا لا يكفر، بل هو مسلم عاصٍ.

نأتي الآن إلى المسائل التي يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي من ناحية التكفير على قسمين:

القسم الأول: يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وإن لم يستحل المخالفة فيها تركها، وهذا ينحصر في الصلاة، دون غيرها من العبادات والشرائع. وفي ذلك أحاديث، وسوف نفرد في مسألة تارك الصلاة حلقة مستقلة إن شاء الله تعالى.

والقسم الثاني: لا يكفر حتى بعد إقامة الحجة عليه، إلّا إذا استحلّ المخالفة فيها، وهذا القسم، يشمل باقي العبادات مثل الزكاة والصوم والحج، وجميع الشرائع.

فلا يكفر المخالف فيها، حتى لو قامت عليه الحجة، إلا بعد الاستحلال.

أي أنه ينكر أنها فرض من الله تعالى، مع أنه أبلغ أنها فرض، وقرئ عليه القرآن والأحاديث النبويّة.

والسبب في تكفير جميع هؤلاء، هو أنهم مكذّبون بما جاء عن الله وعن رسوله، وحكم المكذّب لهما أنه كافر كفراً أكبر، عياذا بالله من الضلال.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

الأربعاء، 17 يناير 2024

المسائل التي يعذر فيها المخالف

إن كل مسألة لا تدرك إلا بالخبر عن الله وعن رسوله، فالمخالف فيها معذور، حتى يبلغه الخبر بذلك.

وبما أن علمها لا يدرك إلّا بالخبر، فبتالي يعذر المخالف فيها لو شبّه عليه فيها، أو نقلت له على غير وجهها الصحيح، أو لبّس عليه فيها بتحريف معاني الأدلة الشرعية، أو نقل له الخبر ممن لا يثق به.

وفي جميع هذه الحالات الأربع، يبقى الأمر معلّقاً بنيّة الشخص، وحرصه على اتباع الحق، فكل ما كانت نيّته أقوى وحرصه أشد، كان عذره أبلغ.

فإذا كان العبد يبحث عن الحق وينوي اتباعه وإن خالف هواه، وحريص على ذلك، ولكن أدركه الموت قبل أن يصل إليه، فهذا بإذن الله تعالى معذور، وغير مؤاخذ.

وأما من أعرض، ولم يأبه، كمن أكتفى أو آثر تقليد الآباء والمشايخ والكبراء، فهو محاسب على تقصيره.

وأوّل هذه المسائل: مسألة صفات الله تعالى، لأنك لا يمكن أن تعرف صفة الشيء حتى يبلغك الخبر بصفته.

هذا في المخلوقات التي تعيش معك على الأرض فكيف بالله تعالى، الذي لا يماثله شيء!

ولا استثني من الصفات شيء، إلا ما كان من علوّ الله تعالى، وكل صفة لها تعلّق بربوبية الله تعالى وألوهيته.

وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والخلق، والمُلك، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.

فثبات هذه الصفات معلوم بالفطرة، فمن أنكرها لم يقر بربوبية الله وألوهيته، وهذا هو الكفر الأكبر.

وأما باقي صفات الله تعالى، فمن جهلها، ولم تبلغه الحجة في ذلك، فهو معذور، وهذا أمر لا يحتاج لمثله دليل.

العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الدليل عليه.

وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه، في عقيدته المشهورة: "لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة أن القرآن نزل به وصح عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر".

ثم عدد من تلك الصفات: السميع والبصير واليدين واليمين والوجه والقدم والضحك والهبوط إلى السماء الدنيا والأصابع.

وكذلك يعذر من علِم صفات الله تعالى، ولكن جهل كمالها الذي يستحقه الله تعالى، لأن الإنسان لعقله حدود لا يتجاوزها، فهو يبني أحكامه في نطاق قدراته العقلية، وأما ما تجاوز نطاق قدراته العقلية، فلا يمكن أن يعلمه إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله.

والدليل الشرعي على عذر من جهل كمال الصفة.

ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم، قال: كلمة: يعني - أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر - أو لم يبتئز - عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال: فاسحكوني -، فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها، فقال: نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، - أو فرق منك -، قال: فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها، فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: أذروني في البحر، أو كما حدث.

وقال ابن عبدالبر في التمهيد: "رُوي من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: "قال رجلٌ لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد".

وقد اجتهد بعضهم في تحريف معنى هذا الحديث فقال: بأن معنى قوله: "إن يقدر الله عليه" أي: يضيّق عليه، وقال بعضهم، إنما قالها في حالة ذهول وشدّة خوف، يريدون بذلك أن ينفو أن يكون هذا الحديث حجة في إعذار من جهل كمال صفة الله تعالى، لانهم يرون كفر من جهل كمال صفة الله تعالى، وإن لم تقم عليه حجة، أي أنها عندهم من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

وتأويلهم هذا باطل، لأن الحديث يفسّر قول الرجل: "إن يقدر الله عليه" بأن معناها أنه يريد أن يفوت الله تعالى، بمعنى أنه ظنّ أن قدرة الله تعالى كقدرة خلق الله، فهو مثّل قدرة الله تعالى بقدرة خلقه، جهلاً منه، نجد ذلك بيّناً وواضحاً في طلب الرجل من ابناءه أن يحرقوه ويذروه في الهواء، حتى لا يستطيع الله جلّ وعزّ أن يقبض عليه ويحاسبه على معصيته.

ولا يعذر في ذلك، إلّا من جهل كمال الصفات التي يستحقها الله تعالى، مع إقراره بفارق الكمال بين صفات الله وصفات خلقه، وأما إن مثَّل صفات الله تعالى بصفات خلقه في الكمال والنقص، من جميع الوجوه، فهذا ممن جعل لله تبارك وتعالى مثلاء وأكفاء وأنداد، وبالتالي يعتبر من المشركين.

وثانيها: جميع العبادات، لأنه لا يمكن معرفة العبادات التي يريد الله منّا أن نتعبّده بها، وكيفية القيام بها، إلّا بالخبر عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: باقي الشرائع، وهي الحدود والأقضية والمواريث، ونحو ذلك، فهذه المسائل من المسائل التي يعذر فيها المخالف بعدم بلوغ الحجة.

وباختصار، فإن التفرقة بين ما يعذر فيه المخالف وما لا يعذر، مدركٌ بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فالناس بطبيعتها، تستطيع التمييز بين هذا وذاك.

المسائل التي لا يعذر فيها المخالف

وسوف أثبت ما أقول بالأدلة الشرعية بإذن الله تعالى

فأقول مستعينا بالله وحده.

أن المسائل الدينية على قسمين:

قسم يُدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وقسم لا يدرك علمه وحاله إلّا بالخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

فأمّا ما يدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فلا عذر فيه البتّة، لا بجهل ولا بغيره.

وهذه المسائل هي: الشرك في ربوبيّة الله تعالى أو ألوهيّته، لأن الإقرار بتفرّد الله تعالى بالملك والخلق والأمر والتدبير وأنه وحده المستحق للعبادة بمعناها الشرعي، فلا يدعى سوى الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه سوى الله سبحانه وتعالى، أمر ثابت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وإذا كان هذا ثابتاً بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فإنه يثبت بالفطرة أنه لا يذبح ولا ينذر تقرباً للحصول على أمر لا يستطيعه إلا الله عز وجل، إلّا لله سبحانه وتعالى، لأن الذبح والنذر لغير الله تعالى، للتقرب له لجلب نفع أو دفع ضُرّ، لا يكون إلا باعتقاد أن هذا المذبوح له والمنذور له قادر على جلب ذاك النفع ودفع ذاك الضُرّ.

وكذلك كل عمل يثبت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أنه شرٌ وقبيح، في نفسك أو غيرك، لا عذر فيه.

سواء في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العِرض.

فأما في نفسك فمثل: الانتحار، وشُرب الخمر، وتناول المخدرات، ونحو ذلك.

وأما في غيرك، فمثل: القتل بغير وجه حق، واللواط، والزنا، ورجم المحصنات الغافلات، وأكل أموال الناس بالباطل، بأي وجه كان، بالغش والخداع والتحايل والسرقة والربا وقطع الطريق، والبهتان والغيبة والنميمة، وأذيّة الناس بأي نوعٍ من الأذى، والكذب، والخيانة، وسوء الأخلاق، ونحو ذلك.

فهذه أمور لا تحتاج فيها إلى مخبر ليخبرك بأنها أعمال شرّيرَة وقبيحة، بل هذا يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، لذلك لا عذر فيها لأحد.

ومع أن هذه الأمور من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى دليلٍ أصلاً، ولكن قطعاً لِمِقْوَل أهل الأهواء والبدع، سوف نورد بعض الأدلة الشرعيّة:

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.

رواه البخاري.

وفي رواية عند مسلم: - قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام.

فلو كان العبد معذورٌ بعدم بلوغ الحجة إليه في حرمة عمل هذه الأشياء، لما أخذ العبد بما عمل في جاهليّته، وإنما أُخِذ بما عمل في إسلامه، وبعد بلوغه الخبر بحرمة القيام بهذه الأعمال.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

رواه مسلم.

وقوله: "ماتوا في الإشراك" أي: ماتوا في زمن الشرك، في زمن الجاهلية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "متى مات هؤلاء". فهو يسأل عن زمن موتهم.

فهؤلاء ماتوا في زمن الشرك، في الجاهلية، وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو قبل بلوغهم دعوته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أخذوا بما عملوا في جاهليّتهم، ولم يعذروا بشيء من الأعذار، وعذبوا في قبورهم بسببها.

فتبيّن من هذه الأحاديث، بكل وضوح، أن ما يقع من العبد من شرور وقبائح، لا عذر له فيها البتّة.

فإذا كان هذا في القتل بغير وجه حق، أو اللواط والزنا، أو غير ذلك من الأعمال التي ذكرناها سابقاً، فكيف بالشرك الذي بطلانه، أوضح من بطلان تلك الأمور.

وإلا فهل يمكن أن تعتقد أن ملاكاً أو إنساً أو جِنَّاً، ميّتاً أو غائباً، أو صنماً أو حجراً أو شجراً، قادر على سماعك أو رؤيتك أو العلم بحالك، أو أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، في مسألة لا يقدر عليها عامة المخلوقات؟! 

طبعاً: الجواب، هذا لا يمكن اعتقاده، إلا أن تجبر وترغم نفسك على الإيمان بذلك، والمخالفة في ذلك، صحيح العقل، وسليم الفِطرة!

فإن قال مشرك: الله هو من وهبهم هذه المنزلة، وجعلهم شركاء له في الأمر والتدبير، ولأجل ذلك فنحن نصرف لهم الدعاء فيما يدعى فيه الله تعالى.

فالجواب: إن ما يدعونه لهذه المخلوقات، لا يأتي على بال، ولا يطرأ على فِكر، وإذا كان هذا كذلك، فهم مطالبون بأن يأتوا بنصّ من القرآن أو السنة، يجيز لهم هذه الأعمال، وإلا كان قولهم افتراء على الله تعالى وافتيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وما يحتجون به من الأحاديث، ليس لهم فيها حجّة، فجميع الأحاديث التي احتجوا بها، ليس في واحد منها جواز دعاء الأنبياء أو الأولياء أو المشايخ أو الجن أو الملائكة أو الأحجار أو الأشجار مع الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وليس في واحد منها، أن الله تعالى اشرك أحداً من مخلوقاته معه في ملكه وخلقه وأمره وتدبير وعبادته، 

وقد بينت ذلك في بحث بعنوان: وقفة مع الأحاديث التي يحتج بها الصوفية في جواز الشرك بالله تعالى في الدعاء والاستغاثة.

كيف والأدلة دالة بخلاف ذلك، فقد قال الله تعالى: ﴿ .. لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ .. ﴾ [الشورى ١١] وقال تعالى: ﴿وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾ [الإخلاص ٤] أي: لن يماثله أو يكافئه، شيء من مخلوقاته في كمال صفاته، لا هبة منه سبحانه لأحد من خلقه، ولا بالممارسة والرياضة، حُكْمٌ حَكَم به الله تعالى على جميع خلقه، ولم يستثني أحدا. 

وهذا الجواب كافٍ لرد شبهة من يزعم أن من وقع في الشرك قبل بلوغ الحجة معذور، وأنه ممن أسماهم: أهل الأعذار.

ولكن تأكيداً على بطلان قولهم، نأتي ببعض الأدلة الداعمة لقولي أعلاه.

فعن زيد بن أثيع، قال: سألت عليا بأي شيء بعثت؟ قال: "بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر".

رواه الترمذي والدارمي وابن أبي شيبة.

وقوله: "بأي شيء بعثت" أي: يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج مع أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع للهجرة.

وهذا الحديث صريح في أنه لن يدخل الجنّة إلا من مات مسلماً، وأما من مات على الشرك فلا حظ له في الأخرة.

وهذا دليل صريح على أن المشرك لا عذر له.

ويزيد ذلك بياناً، ما رواه ابن ماجه، بسند صحيح، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت.

رواه مسلم.

ومن المعلوم أن والديّ النبي ومن مات مشركاً قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، لم تبلغهم الحجة، ومع ذلك، فهم مخلّدون في النّار، عياذاً بالله.

ومن عجائب أهل الأهواء، أنهم يردون هذه الأحاديث الصحيحة بأحاديث أهل الأعذار، وأحاديث أهل الأعذار لا يصحّ منها شيء، فكيف يقدمونها على الأحاديث الصحيحة، بل ويبطلون الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة لأجلها!

وزعم بعض أهل الأهواء، أن الأحاديث التي ورد فيها أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، مخالفة لصريح القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء ١٥]

وهذا باطل، لأن تلك الأحاديث لا تتعارض مع الآية الكريمة، لأن الآية الكريمة، لا تفيد المعنى الذي ذهبوا إليه، وإنما المراد منها، أن الله تعالى، لا يحل عذابا عامّاً في الدنيا على أحد من خلقه، حتى يبعث رسولا، كما فعل بقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ یَبۡعَثَ فِیۤ أُمِّهَا رَسُولا یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾ [القصص ٥٩]

فتبيّن أن المراد بالعذاب في سورة الإسراء، إنما هو العذاب العام، الذي تهلك فيه القرى، وليس العذاب الأُخرَوي، الذي يوقعه الله تعالى على المخالفين يوم القيامة.

كما أنه لا يعني أيضا العذاب الخاص، الذي يوقعه الله تعالى على القرى، فيصيب بعضهم ويدع بعضهم، لأن هذا العذاب يقع وإن لم يبعث رسول، إذا كثر الخبث في الناس.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

مسألة: هل طلب الدعاء أو الشفاعة من النبي (ص) بعد موته شرك؟

كما نعلم أن طلب الدعاء من النبي (ص) أو طلب الشفاعة منه عند الله تعالى وهو حيّ، يعتبر من أعظم القربات.

لأن طلب الدعاء من النبي (ص) أو من رجل صالح، هو من الاستشفاع والتوسل والتوسط المباح، بل المندوب إليهـ لعِظَم نفعه عند الله تعالى.

فطلب الدعاء من النبي وهو حيّ أو الاستشفاع به أو التوسط به عند الله ليس من الدعاء الشركي، فأنت في هذه الحالة، إنما تدعو النبي (ص) أن يدعو لك وأن يشفع لك، ولست تسأل حوائجك منه.

وهو بلا شك عنده منزلة ووجاهة عند الله تعالى، ولذلك فغن الله تعالى يستجيب له أسرع من استجابته لغيره من خلقه، والذين قد لا يستجيب لهم إذا كانوا من المكثرين من المعاصي.

لكن السؤال هنا: هل طلب الدعاء أو الشفاعة من النبي (ص) بعد موته شرك؟

والجواب: اتفقنا أن طلب الدعاء أو الشفاعة من النبي ليست شركاً أساساً، كونك لم تجعل النبي (ص) شريكاً لله تعالى في ملكه أو خلقه أو أمره أو تدبيره أو ألوهيته.

وبالتالي نقول: أنه حتى لو سئل النبي (ص) الدعاء أو الشفاعة بعد موته، فهو ايضاً ليس شركاً، لأنك لم تجعل النبي (ص) شريكا لله تعالى في ملكه أو خلقه أو أمره أو تدبيره أو ألوهيته.

لكن البعض قد يقول: بأن من يسأل من النبي (ص) الدعاء أو الشفاعة بعد موته، قد جعل النبي (ص) مثيلاً وكفوا وندا لله تعالى في كمال صفة السمع، وهذا شرك أكبر؟

والجواب على ذلك: أن هذا صحيح لو كان الأمر كذلك، ولكنهم يقيسون فعلهم هذا بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.

ففي الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن في الأرض ملائكة يبلغونه سلام أمته، وأن الله يرد عليه روحه ليرد السلام.

فهم يقيسون هذا على ذلك، فيقولون: كما أن هؤلاء الملائكة يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه، فكذلك يبلغونهم أن من أمته من يسأله الدعاء أو الشفاعة.

وطبعاً هذا باطل، فالحديث نص على السلام فقط، ولكن الشاهد في هذا الخبر، أنهم لم يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم مثيلا وكفوا وندا لله تعالى في كمال صفة السمع.

وبالتالي: إذا كان من يطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، أو يسأله أن يشفع له عند ربه بعد موته، لم يجعل النبي (ص) مثيلا وكفوا وندا لله تعالى في كمال صفاته سواء السمع أو غيرها، ثم هو لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم شريكاً لله تعالى في ملكه أو خلقه أو أمره وتدبيره أو ألوهيته، فكيف يكون فاعل ذلك مشركاً؟! 

إذا تبيّن لنا أن من طلب الدعاء من النبي أو طلب الشفاعة من النبي بعد موته ، وهو أن يقول "وانتبهوا للصيغة جيداً" : يا نبي الله ادع الله لي أن يفعل لي كذا وكذا. أو يقول: يا نبي الله أشفع لي عند ربك أن يفعل لي كذا وكذا. ليس شركاً أكبر. فتنبهوا لهذا الأمر جيداً.

وقد ورد في إجازة هذا الفعل حديث عن عثمان بن حنيف، حيث أوصى رجلاً بأن يستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ويسأله أن يشفع له عند ربه أن يقضي حاجته.

ولكن لا ينبغي للإنسان أن يفعل ذلك، لأن حديث عثمان بن حنيف ضعيف، والحديث الضعيف لا حجة فيه، ولا يعمل به.

ومثل ذلك من يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له الله عز وجل، مثل خبر الأعرابي، عندما وَوَقَفَ بِحِذَاءِ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُكَ مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا مُسْتَشْفِعًا بِكَ عَلَى رَبِّكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وَقَدْ جِئْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا أَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى رَبِّكَ أَنْ يَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي وَأَنْ تَشْفَعَ فِيَّ .. إلخ.

هذا ليس شركاً أكبر، ولا يخرج صاحبه من الإسلام. لانه لم يسأل من النبي المغفرة، بل سأل من النبي أن يشفع له عند الله أن يغفر له، ولم يجعل النبي (ص) مثيلا وكفوا وندا لله تعالى في كمال صفاته.

ولكن هنا تنبيه غاية في الألأهمية، ودائماً أنبّه عليه، لأنه كثيراً ما يحدث اللبس فيه.

وهو أن المشركين يلبسون على الناس ويدلّسون، فيتوجهون بالدعاء الشرعي إلى النبي (ص) ويسألونه حوائجهم من دون الله تعالى، ثم يقولون: هذا استشفاع وتوسل وتوسط.

وهذا طبعاً كذب، فالاستشفاع والتوسل والتوسط، لها صيغة بيّنة واضحة، بينما الدعاء الشرعي له صيغة بيّنة واضحة.

فهناك فرق كبير في المعنى، بين أن تقول يا نبي الله أدع الله لي. أو: أشفع لي عند الله. وبين أن تقول يا نبي الله أغثني أو أرزقني أو أنصرني أو اشفني، بمعنى أنك تسأل حوائجك ممن لا يملكها، والنبي فضلاً عن غيره من خلق الله، لا يملك شيئاً مع الله تعالى، فكيف تسأل حوائجك منه من دون الله.

ولكن المشركين عندهم حيل، فيقولون: نحن إنما نريد بدعائنا للنبي (ص) أن يدعو الله لنا ويشفع لنا.

وهذه حيلة منهم وتلبيس وتدليس، لأنهم لو كانوا صادقين، لما عَدَلوا عن اللفظ الصحيح للاستشفاع والتوسل والتوسط إلى لفظ مغاير له في المعنى.

كما أن من عرف أحوالهم، علم أنهم يكذبون أيضاً في دعواهم، من جهة أنهم يعتقدون أن النبي مؤثر بنفسه، فعندهم أن النبي (ص) والأولياء والمشايخ، يقضون الأمر من دون الله تعالى، أي: دون الرجوع إلى الله تعالى، وأن الله لا يرد لهم أمراً، بمعنى: أنه أشركهم معهم في ربوبيته وألوهيته، فعندهم النبي والولي والشيخ قادر على كل ما يقدر عليه الله تعالى، وأن الله هو من منحه هذه الخاصيّة.

وهذا مردود بنصّ القرآن.

فالله تعالى قال: (ليس كمثله شيء) وقال: (ولم يكن له كفوا أحد) وقال النبي (ص) لما سئل عن الشرك: "أن تجعل لله ندا".

فالله تبارك وتعالى، لم يمنح هذه الشراكة التي يزعمون لأحد من خلقه، ولم يكن لأحد من خلقه أن يكون شريكاً له في ذلك.

حتى النبي محمد (ص) الذي هو خليله وخاتم أنبياءه وصفوته من خلقه، بيّن الله لنا في القرآن، أنه لم يكن ليكون شريكاً له في شيء من ربوبيته ولا ألوهيته، فقال: "ليس لك من الأمر شيء". في ىيات وأحاديث أخرى في هذا المعنى.

فإذا كان دعوى هؤلاء المشركين، أن الله تعالى منح النبي (ص) أو الأولياء أو المشايخ، الشراكة في ربوبيته وألوهيته، لا يمكن إدراكها بالعقل الصحيح ولا بالفطرة السليمة، وإنما تدرك بالخبر عن الله أو عن رسوله، ثم لم نجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه (_ص) ما يدل على صحة قول هؤلاء المشركين، بل وجدنا ما ينقضه ويخالفه ويكذبه، علمنا أن هؤلاء المشركين المدعين للإسلام مفترون على الله وعلى رسوله.

ولذلك مشركي قريش والعرب، لما قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، وأننا انما نعبدهم لنتخذهم شفعاء لنا عند الله، ألأكذبهم الله تعالى وقال: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقوولن هؤلاء شفعاؤنا عند الله)

فأخبر الله تعالى أن ما يفعلونه من الدعاء والذبح والنذر هو عبادة، وأنهم يكذبون عندما كانوا يقولون: بأنهم إنما يفعلون ذلك طلبا للقربى عنده وليشفعوا لهم عنتد الله، لأن هذا ليس استشفاعا ولا توسلا ولا توسطا، بل هو طلب مباشر ممن لا يملك الشيء المطلوب.

ومشركي المتكلمين والصوفية والشيعة، يستخدمون الصيغة الشركية دائماً، فهم لا يقولون: يانبي الله ادع لنا أو يا نبي الله اشفع لنا. 

لا يستخدمون هذه المصطلحات.

وإنما يستخدمون المصطلحات الشركيّة، وهي: يا نبي الله أغثنا أو ارزقنا أو أشفنا ونحو ذلك. مما قد تبيّن به إيغالهم في الشرك الأكبر.

توحيد الصفات

يعرف هذا القسم من التوحيد عند الاصطلاحيين بتوحيد الأسماء والصفات.

وهذه التسمية لعلها غير دقيقة.

لان معنى توحيد الأسماء، أي: أن نوحّد الله سبحانه وتعالى بإطلاق هذه الأسماء عليه.

فالله تعالى سمّى نفسه: العليّ. وبناءً على ذلك لا يجوز أن نتسمّى بـ عليّ، وقس على ذلك باقي الأسماء.

وهذا باطل شرعاً، فإن الله تعالى أباح لنا أن نتسمّى بأسماءه، شرط أن لا يتظمن ذلك، أن نعتقد أن ما تعنيه هذه الأسماء من معاني، وتحتويه من صفات، مماثلة ومكافئة لكمال صفات الله تعالى، فعندما نصف الله تعالى بأنه العليّ فإننا نعني بذلك العلوّ المطلق، ولكن عندما نسمي رجلاً عليّاً، فإننا نعني بذلك العلو المقيّد، أي: الكمال البشري في صفة العلوّ.

مع أننا في كثير من الأحيان، نطلق أسماء ذات معاني قد لا تنطبق على صفة المتسمّي بها.

وهذا في جميع الأسماء بلا استثناء.

حتى في خالق وخلّاق.

لأن معنى خالق هو مبدع أو صانع، ومعنى خلّاق، اي كثير الإبداع والصنع، ولذلك من ناحية المعنى هذا الاسم لا حرج في التسمية به، ولكن مع الكراهة.

لماذا؟

لأن هذال الاسم، بهذا اللفظ، صار دلالة على كمال القدرة في الخلق.

فالإنسان  يخلق، ولكنه لا يستطيع أن يخلق كخلق الله تعالى.

الإنسان يخلق آلات ومساكن، ولكنه لا يستطيع أن يخلق شجرة أو حيوان أو نحو ذلك، كما أن الإنسان لا يستطيع أن يخلق المادة الأولية الأساسية لخلق الآلات والمساكن، وإنما يستعين بما خلقه الله تعالى من مواد ليخلق هو من خلالها ما يحتاجه.

وأما الأسماء التفخيمية، التي تدعو إلى الكِبر والغرور مثل جبّار وعظيم ونحو ذلك، فهذه يكره التسمي بها لما فيها من الكِبر والتعاظم، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى. ولكن لو تسمى بها الإنسان، وكان خالياً من هذه الصفات، أو متعاظماً على من يستحق أن يُتعاظم عليه، من المتكبّرين والمتعجرفين والبغاة، فهذا لا بأس به.

إذا ما التسمية الأصح لهذا القسم من التوحيد؟

الجواب: هو توحيد الصفات.

وقولنا: توحيد الصفات، لا نعني به، أنه لا يتّصف بهذه الصفات ولا ينبغي له أن يتّصف بها إلا الله عز وجل.

بل مرادنا من ذلك، أن نوحّد الله تعالى ونفرده بكمال هذه الصفات التي اتّصف بها، الكمال المطلق.

فإن هناك كمال مطلق وكمال مقيّد.

الكمال المقيّد، هو الكمال البشري، الذي لا يستطيع البشر أن يزدادوا من الكمال فيه.

والكمال المطلق، هو الكمال الذي لا يليق إلا بالله تعالى، والذي لا يستطيع كائنٌ من كان أن يبلغ اليسير منه.

والدليل على تفرّد الله تعالى بكمال الصفات الكمال المطلق، هو قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئِل عن الشرك فقال: "أن تجعل لله ندّاً" .. الحديث.

والعرب تقول: "فلان ليس كمثله أحد. وفلان لا كفء له. يريدون بذلك أنه متفرّد بكمال الصفات التي كمل فيها الكمال البشري. 

ولا يزال العرب في الحجاز ونجد يقولون: "فلان ما مثله أحد. و "ما" هنا بمعنى ليس.

وهم إنما يقارنون بين كمال صفة هذا الشخص الذي يثنون عليه، وبين كمال هذه الصفة في غيره من الأشخاص. الكمال البشري، كما أنهم يقارنون بين صفة هذا الشخص، والمحيط الذي هو فيه.

أما الله سبحانه وتعالى، فهو يفاضل بين صفاته وبين صفات جميع مخلوقاته وفي كل مكان وزمان، ففي كل زمان ومكان، الله تعالى هو المتفرّد بكمال الصفات الكمال المطلق، الذي مهما اجتهد البشر والجن والملائكة أن يبلغوا هذا الكمال، فلمن يبلوغوا إلا اليسير منه، الذي أجاز الله تعالى أن يبلغوه، وهو الكمال المقيّد.

وصفات الله تبارك وتعالى قسمها أهل العلم إلى أقسام، منهم من قسمها إلى قسمين: ذاتية وفعلية، ومنهم من قسمها إلى ثلاثة اقسام، وهي: ذاتية ونفسيه وفعلية.

والحقيقة أن النفسية والفعلية هي صفات ذاتية.

ولكن يظهر لي أن هناك تقسيم أشمل وأكمل من هذا التقسيم، وهو:

صفات نفسية، وهي: كالسمع والبصر والكلام وحديث النفس، ونحو ذلك. وأيضاً الانفعالات النفسيّة كالرضى والغضب والتعجّب والفرح والعظمة والكِبر، ونحو ذلك.

وصفات شخصية، وهي: الصورة والوجه والعينان واليدان والأصابع والحقو والقدمان.

وصفات فعلية، وهي الإتيان والمجيء والنزول والصعود والاستواء على العرش والبسط والقبض والطي والخلق والكلام بصوت ونحو ذلك.

فأما أهل القرآن والسنة، فآمنوا بما بلغهم من صفات الله تعالى، وفهموا ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث على معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها.

وأما أهل الأهواء والبدع والزيغ والضلال والفرقة، من المعطلة، فإنهم استوردوا ديناً أخذوه عن ملاحدة فلاسفة الإغريق، فكذّبوا بما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه من الآيات والأحاديث، إيماناً منهم بأقوال فلاسفة الإغريق، مع أن فلاسفة الإغريق إنما يرضخون أقوالهم رضخاً، فهم إنما يظنون ظناً، وقد ورد النص الشرعي بتكذيب ظنونهم، ومع ذلك بقي المعطلة المنتسبون إلى الإسلام، متمسكون بهذه الأقوال، تعصّباً لأقوال مشايخهم الذين لقنوهم هذه البدع والضلالات! فالأمر لا يعدو كونه عصبيّة جاهليّة، دفعهم إليها الكِبْر.

وكل طائفة تثبت ما شاءت وتنفي ما شاءت من صفات الله تعالى، وكأن الله خاضع لأهوائهم وأرائهم ومخيّلاتهم، فهؤلاء ينفون جميع صفات الله، وهؤلاء يثبتون الصفات الذاتية وينفون الصفات الفعلية، وهؤلاء يثبتون سبع صفات وينفون غيرها، وهكذا تجدهم في أمر مريج، لأنهم لا يستندون في ذلك إلى وحي سماوي، بل لمخيلاتهم وأهوائهم، وكل يدعي أن الحجة له، وأن استنباطاته أقوى. 

ثم استماتوا هم وكبرائهم الذين لقنوهم التعطيل، والإلحاد في صفات الله تعالى لشرعنة أقوال أئمتهم فلاسفة الإغريق، فما تركوا حيلة لم يحتالوها في نصره أقوالهم.

فصنّفوا الآيات التي ورد فيها ذكر صفات الله تعالى، بأنها من الآيات المتشابهة، ومع أن الله قال: بأنه لا يعلم تأويلها إلا هو، إلا أنهم تأولوها. 

حتى المفوّضة منهم، ألزموا أيّ مفوّض بأن يعتقد بأن ظاهرها الذي تعرفه العرب من كلامها غير مراد، فقبل المفوضة كل تأويل، إلا التأويل الصحيح الذي تعرفه العرب من كلامها!

ثم حكموا بأن القرآن ليس هدى في معرفة الله وصفاته، وحتى يشرعنوا هذه المقولة الكفريّة، احتجوا بقوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" لم يجدوا سوى هذه الآية، فقدموها كحجة لهم على صحة قولهم الفاسد، وقالوا: أليس الله تعالى لا ينسى. فتقول: نعم. لأنك تجعل معنى النسيان، هو فقد ذكر الشيء، وحصره في هذا المعنى، فيقولون: هذه الآية تفيد أن الله ينسى، ومن اعتقد أن الله ينسى فهو كافر، لانه ينسب النقص لعلم الله تعالى، إذا ىيات الصفات من المتشابه ولا يمكن الاهتداء بها، بل قرروا بناء من هذا القول بأن ظاهر القرآن لا يدل إلا على الكفرن لأن من اعتقد أن الله ينسى بناء على هذه الآية، فقد كفر، فهذه الىية لا تدل إلا على الكفر، ثم سحبوا هذه التقريرات على سائر آيات الصفات، وزقاسوها بهذه الآية.

وهذه مجرّد حيلة منهم لشرعنة قولهم الذي لقنهم إيّاه إمامهم إبليس لعنه الله.

لأن النسيان في لغة العرب تعني: الترك. فمعنى الآية: تركوا الله فتركهم. 

وإنما سمّي فقد ذكرى الشيء: نسياناً، لأأن فاقد ذكرى الشيء، تاركٌ له. 

ولا يزال العرب في جزيرة العرب يقولون إذا تركوا الشيء وأهملوه: نسيناه. يكنون عن ذلك بشدّة الترك.

فحتى هذه الآية لم تسعفهم في شرعنة كفرهم وضلالاتهم، ولا تنطلي حجتهم هذه إلا على الجهلة والحمقى والمغفلين.

مع أن القرآن كلّه هدى، والآيات المتشابهة، يمكن معرفة معانيها من خلال المحكم من الآيات، أو بما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح والحسنة والمقبولة، لأن النبي هو المكلف ببيان القرآن. ولكنه عمى على الذين لا يؤمنون به، وهذا هو واقع جميع الفرق الضالة، والتي رأسها المعطلة الملحدين في صفات الله تعالى، لما أعرضوا عن هديها صار عليهم عمى، نسأل الله العافية.

ثم حكموا أيضاً بأن الأحاديث ليست هدى في معرفة الله وصفاته، لكي لا يقبلوها كمفسِّرة ومُبيِّنة للقرآن، لأنهم إنما يريدون التلاعب بمعاني القرآن الكريم، وفق ما لا يتعارض مع قول أئمتهم فلاسفة الأغريق.

وانقسموا في شأن الأحاديث قسمين: 

قسم قال: نكذّب بها صراحة ونضربها بالعِلل، ومن لم يكن له علّة يوجدون له علّة، ثم يضربونه بها، وإن كانت في حقيقة الأمر لا تؤثر على صحة الحديث عند أهل الحديث الذين أسّسوا هذا العلم.

وقسم قال: بل نحرّف معانيها كما حرّفنا معاني القرآن الكريم، ونبحث لها عن تأويلات تحيلها عن غير ظاهرها.

ثم عمدوا إلى آيات لا تفيد مرادهم في التعطيل، واحتجوا بها على تعطيلهم لصفات ربهم عز وجل، وإنما يريدون بذلك التحايل على الناس والتلبيس عليهم والتدليس والغش والخداع.

وقد صدق الإمام عبدالله بن قدامة، عندما قال في كتابه المناظرة في القرآن، بأن هذه الطائفة شرّ طائفة خرجت في الإسلام، لاتن كل بدعة هي دون بدعتهم في الشرر والضرر، وماهو شرٌّ منها إنما بُني عليها.

فأهل السنة والحديث والأثر والجماعة، إذا قرأوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، انشرحت صدورهم واستنارت وجوههم، لما يجدون من موافقة كتاب الله تعالى وسنة نبيه لمكعتقدهم.

وأما المعطلة الملحدة في صفات الله تعالى، وسائر الفرق الضالة، غذا قرأوا القرآن والسنة، ضاقت صدورهم وأظلمت وجوههم، لما يجدون من مخالفة الكتاب والسنة لمعتقداتهم المستوردة، فهم دائبين في تحريف نصوصهما، والتكّلف في ذلك.

فنحمد الله تعالى على هدايته ونسأل الثبات حتى نلقاه إنه جواد كريم.

الاثنين، 15 يناير 2024

مسألة في الذبائح

وهنا مسألة، وهو أني ذكرت بأن كل ذبح قُدِّم لغير الله تعالى، لم يذكر اسم الله عليه، فهو ذبح شركي، سواء فيما يقدر عليه المخلوق أو لا يقدر، فما الدليل على ذلك؟

الدليل على ذلك.

قوله تعالى فيما حرّم من اللحوم: ﴿ .. وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ .. ﴾ [المائدة ٣]

وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ﴾ [الأنعام ١٢١]

فحكم الله عز وجل هنا على من لم يذكر اسم الله تعالى على الذبيحة بأنه مشرك.

مع أنه لم يذكر اسم غير الله تعالى.

وحكم سبحانه وتعالى، بأن كل ذبح لم يذكر اسم الله عليه فهو حرام.

فمن يجيز الذبح دون ذكر اسم الله تعالى، أو يجيز الذبح على غير اسم الله تعالى، سواء أشرك ذكر اسم المخلوق المذبوح له مع ذكر اسم الله تعالى، أو ذبح على اسم هذا المخلوق وحده، كمن يجيز الذبح على ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلل ذلك بأنه أراد التبرك بذكر اسمه، فهو من أولياء الشيطان.

وقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (162) لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰ⁠لِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (163)﴾ [الأنعام]

والنُسُك، هي الذبيحة

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله".

ولكن البعض قد يستشكل عليه، كيف يكون الذبح للمخلوق على أمر يستطيعه، دون ذكر اسم الله تعالى، ودون ذكر اسم هذا المخلوق، ذبحاً شركياً؟

ولتتبيّن لك المسألة، أذكر هنا خبراً ذكره الشيخ حامد آدم، وهو من بلاد السودان، في محاضرة له، وكان هذا الرجل مشعوذاً وساحراً صوفياً، ترقى في مراتب الصوفية إلى أن بلغ رتبة القطب، وهي أعلى رتبة عند الصوفية، ثم تاب إلى الله تعالى وأسلم.

فقد ذكر الشيخ حامد آدم، أن الجِنّ كانت تأمره أن يذبح لهم ذبيحة كقربان لهم، ليقوموا بخدمته، وأنهم كانوا يشترطون عليه، أن لا يذكر اسم الله تعالى، وكانوا يأمرونه أن يعضّ على حديدة أو خشبة أو أي شيء، لكيلا ينسى ويذكر اسم الله تعالى على الذبيحة بالخطأ.

فنجد هنا، أن الجنّ لم تأمره بأن يذكر اسم ملكها الذي تُقدَّم له الذبيحة، بل اكتفوا بعدم ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة، مع أن الذبيحة قُدِّمت لهم على أمر يستطيعونه.

والجنّ خبثاء، يعرفون من اين تؤكل الكتف، فلو لم يكونوا يعلمون أن هذا النوع من الذبائح شرك أكبر، لما افترضوه على أوليائهم من شياطين الإنس. 

ومن هنا يتبيّن لنا، أن هذا النوع من الذبائح، هي ذبائح شركية.

كيف أميّز بين قوة وقدرة الخالق سبحانه وقدرة المخلوق؟

وبصيغة أخرى: كيف أميّز في دعائي، بين ما يجوز صرفه لغير الله عز وجل، وما لا يجوز صرفه إلّا لله عز وجل.

سبق وأن اشرت إلى هذه المسألة سابقاً، ولكني بودي هنا أن أعيدها بمزيد من التوضيح، من باب التذكير.

والجواب على ذلك: أن تنظر في عامة الناس، فما لا يقدر عليه عامة الناس، فإن الملائكة والأنبياء والأولياء والمشايخ والجن لا يقدرون عليه، فضلاً عن الأشجار والأحجار.

ويوضّح ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنكي من الله شيئا، سليني من مالي ما شئتِ".

فنجد النبي صلى الله عليه وسلم هنا، يقول لابنته فاطمة: أنا لا أقدر إلا على ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، وأما غير ذلك فلا أستطيعه، حتى أنه لا يستطيع أن يدخله جنة ولا ينجيها من نار، ولا أن يهب لها رزقاً، إلا مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وبعد إذنه سبحانه.

مع الأخذ في الاعتبار، الفارق بين هذه المخلوقات في قوتها وقدرتها، فهذه المخلوقات بعضها أكمل من بعض، ولكن جميعها تبقى قوتها وقدرتها قوة وقدرة مخلوق، تكون في أشياء معيّنة ومحدودة.

فعندما تستغيث ببشر لينصرك على عدوّك، تريد منه أن يأتيك بنفسه، أو يبعث رجالا إليك نيابة عنه، أو على الأقل يعطيك سلاحاً، أو مالاً لتشتري به سلاحاً، ولا يمكن أن يكون مرادك من الاستغاثة به أن ينزل الخوف في قلوب عدوك، أو يقوي قلبك وعزمك حتى يجعله أقوى من قلب وعزم عدوّك، أو يبع ملائكة لينصروك، حتى يفرّ عدوك منك. لأن هذه الأمور لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فإن زعمت أن المخلوق قادر على مثل ذلك، بدعوى أن له مكانة ووجاهة عند الله، فقد جعلته لله ندّاً في قوته وقدرته سبحانه، وهذا هو الشرك الأكبر.

والطبيب، يذهب إليه الناس ليجدوا الشفاء عنده من مرضهم، ولكن الطبيب حتى يستطيع شفائك من مرضك، يجب عليه أولاً أن يفحص جسدك، وقد يهتدي لموضع العِلة وسببها وقد لا يهتدي، ثم يبحث لك عن علاج، وقد يهتدي لعلاج علّتك وقد لا يهتدي، ثم هو إذا عرف علتك، لا يستطيع "خلق" دواء علّتك، وإنما يبحث عن الدواء، بين ما خلق الله تعالى من أعشاب أو ثمار، فإن لم يجد، أو لم يعرف أيّ الأعشاب أو الأدوية هو الوسيلة لشفاء مرضك، فسوف يكون عاجزاً تماماً عن شفائك، ثم أنت لا تعلم هل هذا الطبيب، طبيب متقن لعمله، خبير به أم لا.

ولكن من الذي عنده القدرة على أن يهديك إلى الطبيب الحاذق، ثم يوفّقه لمعرفة علّتك، ثم يوفقه لإيجاد الدواء الصحيح لهذه العِلّة؟

ومن خلق لك الدواء ابتداء على غير مثال سابق؟

الجواب: هو الله وحده لا شريك له.

أحد مشركي الصوفية قال لي: ألسنا نسأل من الطبيب الشفاء؟

قلت: بلا.

فقال: فهذا عندكم شرك. وإذا جاز أن اسأل من الطبيب الشفاء، جاز أن أسأل من الأنبياء والأولياء الغوث والنصر والرزق ونحو ذلك.

فقلت له: حسنا، إذا أصبت بمرض، فلا تدعو الطبيب إلى منزلك، ولا تذهب إليه في المستشفى، بل استقبل جهة المستشفى وأنت على فراشك، ووجهك بطون يديك إلى جهة المستشفى، ثم قال: يا دكتور اشفني من مرضي!

وعندئذ، انتظر من الدكتور أن يسمعك أو يراك أو يعلم بحالك، ويعلم سبب مرضك دون كشف، ويعلم بالدواء المناسب، ثم يعالجك وهو في مكانه من المستشفى!

وهذا ما لا يكون.

فمن يقول بهذا القول لا يستطيع التفرقة بين قدرة الخالق وقدرة المخلوق، لذلك يخلط بينها بمثل هذا الخلط الخاطئ.

فقدرة الطبيب محدودة، وحتى يشفيك من مرضك، يحتاج هو نفسه إلى بذل الأسباب التي وضعها الله له، مع توفيق الله تعالى، لمعرفة علّة المريض، وأيضاً المريض نفسه، يحتاج إلى بذل الأسباب مع توفيق الله له ليشفى من مرضه.

أما الوحيد الذي يملك أن يهديك ويهدي الطبيب إلى الطريق الذي من خلاله تصل إلى الشفاء من مرضك فهو الله وحده.

وهو وحده، الذي خلق المرض وخلق دواءه، وهو الذي علّم الطبيب، ما لم يكن يعلم، وهو الوحيد القادر على أن يشفيك من مرضك بلا أسباب.

ومن يعتقد في الطبيب هذا الاعتقاد، فقد جعل من الطبيب نداً لله تعالى، ووقع في الشرك الأكبر.

لذلك أنت إذا مرضت، تبدأ بسؤال الله تعالى الشفاء. ثم تتسبب بالأسباب التي وضعها الله تعالى لعباده ليتسببوا بها، طاعة له سبحانه، لأنه هو من أمرنا بأن نأخذ بالأسباب، وإلّا لأي شيء سبّب الأسباب، فالله تعالى لا يريد من مخلوقاته أن تكون اتكاليّة، فكما أنك لتأكل يجب عليك أن تبذل السبب لتنال به الطعام، وهو أن تعمل، فكذلك لتشفى من مرضك عليك أن تبذل السبب الذي يعينك على الشفاء من مرضك.

وفي جميع جوانب حياتك لتصل إلى مطلوبك، تبدأ بسؤال الله تعالى، وتبذل الأسباب التي توصلك إلى هذا المطلوب.

والله يستجيب لك إن شاء، ويعينك إلى الوصول إلى مطلوبك.

ولذلك، فإن العلماء الذين اشترطوا في دعاء المخلوق ليكون مباحاً، أن يكون المخلوق حيا لا ميتا، وحاضرا لا غائبا، وأن يكون دعاءه فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، كانوا مصيبين في ذلك، وقد دلّ هذا على أن الله تعالى رزقهم الفهم العميق لهذه المسألة.

فالميّت والغائب، لا يمكن أن يسمعك إذا ناديته، ولا أن يراك، ولن يعلم عن حالك شيئاً، ففي جميع الأحوال لا يجوز دعاء الميّت والغائب، سواء فيما يستطيعه المخلوق، أو فيما لا يستطيعه إلا الله تعالى، لأنك بذلك جعلت المخلوق ندّاً لله تعالى في كمال سمعه وبصره وعلمه وقوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.

كما أن المخلوق لن يستطيع أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، لذلك لا يجوز دعاء المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، حتى لو كان حيّاً وحاضراً، لأنك لو فعلت ذلك، فقد جعلته ندّاً لله تعالى في قوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.

وكل هذه المسائل مدركة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، وهو أن الميّت والغائب لا يمكنهما أن يسمعاك أو يبصراك أو يعلمان عن حالك شيئاً، كما يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أن المخلوقون لا يمكن أن يغيثوك أو يعينوك أو يعيذوك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، فكيف تدعوهم في ذلك!

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.

ضابط العبادة

العبادة في معناها اللغوي، تختلف عن العبادة في معناها الشرعي.

فالعبادة لغة: هو كل عمل فيه خضوع وخنوع وتذلُل.

والعبادة شرعاً: هي كل عمل فيه خضوع وخنوع وتذلَل، ويجب أن لا يصرف لغير الله تعالى.

وهذا هو ضابط العبادة الشرعيّة.

فالعبادة في معناها اللغوي، هي كعبودية الشعوب لملوكها، والرجل لوالديه، والعبيد لأسيادهم.

وأما العبادة الشرعيّة، فهي أن تتعبد لله تعالى وحده لا شريك له، بأعمال لا يجوز أن تصرفها لغيره.

كأن تدعو الله تعالى في أمر لا يستطيعه إلا هو سبحانه.

أو تذبح لله وتنذر له، لتتقرب له، لقضاء حاجة لا يستطيع قضاءها إلا هو سبحانه.

أو تعبد الله تعالى بأعمال أمرك أن تعبده بها.

كالصلاة والزكاة والصوم والحج، ونحو ذلك.

ويشمل ذلك الأعمال القلبية.

فتجعل حبك لله أعظم الحب، وخوفك منه أعظم الخوف، ورهبتك منه أعظم الرهبة، وخشيتك منه أعظم الخشية، ورجاءك له أعظم الرجاء.

فلا تجعل لله تعالى مثيلا ولا كفواً ولا نِدّاً في ذلك كله.

فإن صرفت شيئاً من ذلك لغير الله تعالى، فقد وقعت في الشرك الأكبر.

فضابط العبادة له شرطان:

الأول: أن يكون العمل يراد به الخضوع والخنوع والتذلّل.

والثاني: أن لا يجوز صرفه لغير الله تعالى.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.

هل كل دعاء أو ذبح أو نذر أو صدقة شرك؟

والجواب: ليس كل دعاء أو ذبح أو نذر أو صدقة شرك.

فالعرب تسمّي النداء: دعاء. كقولنا: يا زيد أفعل، ويا زيد لا تفعل، ونحو ذلك. 

وكذلك دعاء الناس بعضهم بعضاً، عندما يستغيث ويستعين ويستعيذ بعضهم ببعض، فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا.

هذا كله مباح.

وإنما يكون الدعاء شركاً، إذا صرف لغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. أو صرف لغير الله تعالى في حال يكون فيها هذا المدعو عاجزاً عن سماعك أو رؤيتك أو العِلم بحالك. كأن يكون في مكان بعيد، أو يكون ميتاً، ويعيش في عالم أخر، حتى لو كان ما تدعوه إليه، مما يقدر عليه المخلوقون عادة، فإذا كان المدعو في مكان بعيد، أو ميِّت، فلا يجوز دعاءه بحال.

فهنا يكون الدعاء شركاً.

ويكون عملك عبادة شرعية، لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.

وكذلك الذبح، فمن الذبح ما لا يكون شركاً، كذبح الرجل لنفسه ليطعمها، ولأهل بيته ليطعمهم. 

أو كذبح الرجل لضيفه إكراماً له.

أو كذبح الرجل لرجل تقرباً له، ليقضي له حاجة من حوائج الدنيا، التي يقدر المخلوقون عادة على قضائها.

فيذبحها ويقدمها إليه على أنها هديّة أو ضيافة.

إلا أن الله تعالى، اشترط علينا في كل ذلك، أن نذكر اسمه العظيم عليها عند الذبح.

فلا تحلّ ذبيحة لم يذكر اسم الله تعالى عليها.

ولكن الذبيحة تكون شركاً، إذا قدّمت لمخلوق تقرباً له، ليقضي حاجة من الحوائج التي لا يستطيع قضاءها إلا الله تعالى.

أو يقدم الذبيحة لمخلوق تقرباً وتزلفاً دون ذكر اسم الله عليها، أو بذكر اسم هذا المخلوق عليها عند الذبح، بدل ذكر اسم الله تعالى، فهنا تكون هذه الذبيحة، شرك أكبر.

وكذلك النذر، فمن نذر لمخلوق لأجل أن يقضي له حاجة من حوائج الدنيا التي يقدر عليها المخلوقون عادة، فهذا نذر جائز، شرط أن لا يكون رشوة أو حراماً.

كقول الرجل للرجل: إن بعتني أرضك الفلانية، أعطيتك جملي الأحمر مع الثمن، فهذا نذر مباح.

ولكن النذر يكون شركاً، إذا قًدِّم لمخلوق تقرباً له، ليقضي حاجة من حوائج الدنيا التي لا يستطيع قضاءها إلا الله تعالى.

وكذلك الصدقة، فقد يكون للرجل عند رجلٍ حاجة من حوائج الدنيا، التي يستطيع المخلوقون قضائها عادةً، فهذه صدقة جائزة.

كقول الرجل للرجل: إن كنت تريد أن أقضي حاجتك الفُلانيَّة، فعليك أن تعطي الفقير - ويسمي الفقير الذي يريد أن يصله الخير - طعاماً، أو اشتر له طعاناً، أو غير ذلك من صنوف الخير، فيقوم الرجل صاحب الحاجة بتقديم هذه الصدقة غلى ذلك الفقير، ليس له فيها نيَّة، إلا أن يقوم الرجل الذي حاجته عنده بقضاء حاجته.

ولكن الصدقة تكون شركاً، إذا قًدِّمت لمخلوق تقرباً له، ليقضي حاجة من حوائج الدنيا التي لا يستطيع قضاءها إلا الله تعالى.

والعلّة في كون دعاء المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو الذبح له والنذر له، أو التصدق لأجله، للتقرب لقضاء حاجة لا يستطيع قضاءها إلا الله تعالى، هو أن الداعي جعل لله مثيلاً وكفواً وندّاً.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

أصل الشرك

أصل الشرك معلومٌ من قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)

وقوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد)

وعرّف النبي صلى الله عليه وسلم الشرك، في الحديث الصحيح، بأنه: "أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك".

فالمثيل والكفؤ والنِدّ معان مترادفة.

ومعنى ذلك: أن الله تعالى لا يماثله ولا يكافئه ولا نِدَّ له في كمال صفاته.

فهذه الآيات وهذا الحديث، تدلّ على التباين بين كمال الصفات بين صفات الله تعالى، وبين صفات مخلوقاته.

والعرب تقول: "فلان ليس كمثله أحد" والعامة في الحجاز ونجد يقولون: "فلان ما مثله أحد" و "ما" هنا بمعنى ليس.

يريدون بذلك التنبيه على التباين بين كمال الصفات في هذا الشخص وغيره من الأشخاص.

ويتبيّن لنا هنا، خطأ المعطِّلة، عندما احتجوا بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) على تعطيل صفات الله تعالى، لأن هذه الآية لا تعني ذلك، لا من قريب ولا من بعيد.

فأنت إذا ساويت بين الله تعالى وبين خلقٍ من خلقه في كمال الصفات، فقد جعلته لله مثيلاً وكفواً ونِدّاً، وهذا هو الشرك الأكبر.

وآية ذلك، أنك ترى أن المخلوق قادر على جميع ما يقدر عليه الله تعالى، أو على بعض ما يقدر عليه الله تعالى، مما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى في الحقيقة.

فمثلاً: أن تدعي أن المخلوق عنده من قوّة السمع، ما يقدر به على أن يسمعك وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.

أو تدعي أن المخلوق عنده من قوة البصر، ما يقدر به على أن يراك وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.

أو تدعي أن المخلوق عنده من قوة العِلم، ما يقدر به على أن يعلم بحالك، وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.

أو تدعي أن المخلوق عنده من القوة والقدرة، ما يقدر به على أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.

كل هذه الاعتقادات، تفيد أن العبد، قد جعل من المخلوقات من يماثل ويكافئ الله تعالى في كمال صفاته، التي لا يستحقها إلّا هو، وهذا هو الشرك الأكبر، الذي من مات عليه، خَلُد في النار.

فإن قيل: كيف أميّز بين الفارق بين صفات الله تعالى وصفات مخلوقاته من حيث الكمال؟

فالجواب: هذه المسألة تدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فكل ما عليك أن تنظر إلى عامة المخلوقات، فما لا يقدرون عليه، فإن الملائكة والأنبياء والأولياء والجنّ لا يقدرون عليه.

مع الأخذ في الاعتبار، الفارق في صفة القوة والقدرة من المخلوقات، فهذه المخلوقات بعضها أكمل من بعض، في قوتها وقدرتها وكمال صفاتها، ولكن جميعها لكمال صفاتها حدود لا تتخطّاها.

فمثلاً: الملك لضخامة حجمه، لديه القوة والقدرة على أن يرفع جبلاً، وهذا ما لا يستطيع الإنس والجن فعله بحجمهم الطبيعي، ولكن أعطني إنسانا أو جنّيّاً في حجم ملك، وسوف يكون قادراً على ذلك.

والواجب أن تعطي المخلوق طاقته من القوة والقدرة، فالعبد لا يسمعك ولا يبصرك إلا إذا كان قريباً منك، ليس بينك وبينه إلا أذرعٌ يسيرة، ولا يعلم عن حالك شيئاً، ما لم يسمعك أو يراك أو تخبره بخبرك أو يُخْبَر عنك.

وأنه لا يستطيع أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، إلا في أمور الدنيا، التي يغيث ويعين ويعيذ المخلوقون بعضهم بعضاً فيها.

شرط أن يكون حيّاً أيضاً، لأنه إذا كان ميّتاً، لن يستطيع سماعك أو رؤيتك أو اغاثتك أو اعانتك أو اعاذتك، مما رجوه أن يغيثك أو يعينك غليه، أو يعيذك منه، لأنه وإن كان جسده حراً إلا أن روحه تعيش في الم أخر، 

لأنك إذا جعلت لله ندّاً في كمال صفاته، استجزت أن تسأل من هذا الندّ، ما لا يجوز سؤاله في الحقيقة من غير الله تعالى، كونه لا يقدر على ذلك سوى الله تعالى، الذي تفرد بكمال الصفات، وبكمال القوّة والقدرة.

لذلك لا يجوز دعاء غير الله تعالى، فيما لا يقدر عليه في الحقيقة إلّا الله تعالى.

وكذلك لا يجوز النذر والذبح لغير الله تعالى، تقرباً وتزلّفاُ، لقضاء حاجة لا يقدر على قضاءها في الحقيقة إلّا الله تعالى.

هذا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.

ما هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها؟

قال تعالى في محكم التنزيل، في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم].

قوله: (فطرة الله) أي: خلق الله الذي خلقهم عليها، وهي الإسلام.

وقوله: (لا تبديل لخلق الله) أي: لا تغيّروا خلق الله تعالى الذي خلقهم عليه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

رواه البخاري ومسلم.

قلت: ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "ويؤسلمانه" فالإسلام هو دين الفطرة.

وعن عياض بن حمار قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله جل وعلا أمرني أن أعلمكم مما علمني يومي هذا، وإنه، قال لي: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن كل ما أنحلت عبادي فهو لهم حلال، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم الذي أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .. الحديث.

رواه مسلم بإسناد صحيح، وإسنادين فيهما ضعف، والغريب أن الإمام مسلم، قدّم ذكر أحد الإسنادين الضعيفين، ثم أعقب بعد ذكر الحديث بذكر الإسناد الصحيح والإسناد الضعيف الأخر!

قلت: وهذا لا يعني أن المولود يولد يوم أن يولد عالماً بجميع أحكام الشريعة الإسلامية، بل المراد بذلك، أن المولود يكون نقيّاً من الشرك، وإذا سلِم من أن يؤثر على فطرته، فإنه لا يبلغ سنّ التمييز حتى يدرك ثلاثة مسائل: أن له ربّاً، وأن ربّه في السماء، وأن ربّه هو الملجأ والملاذ عند النوائب.

وقد لا يعرف اسمه الله تعالى، ولكن يعرف أن له ربّاً وإلهاً، فيقول: يا إلهي أغثني أو أعني أو أعذني أو أرزقني أو أشفني، ونحو ذلك.

وما يترتب على ذلك، من معرفة أن الله تعالى هو المتفرد بالملك والخلق والأمر والتدبير، لأنه لا يستقيم الإيمان بأن الله تعالى هو الربّ وهو الملجأ والملاذ عند النوائب، إلا بالإقرار بتفرد الله تعالى بالملك والخلق والأمر والتدبير، سواء صرّح العبد بذلك أو لم يصرّح، اعتقاده وفعله دلّا على ذلك، وإن لم يستحضر هو ذلك أو يتفوّه به.

وأما معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة أحكام الشريعة، فلا يكون ذلك إلا بالخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

بيان بأصول فرق المبتدعة ومنشئها

المدارس المنتسبة إلى الإسلام ثلاث مدارس: أهل الحديث وأهل الرأي وأهل الكلام.

فأما أهل الحديث فهم أهل السنة والجماعة، وهم أتباع السلف الصالح، وهم: النبي (ص) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومن أقتفى أثرهم من أئمة الدين كمالك بن أنس ومحمد الشافعي وأحمد بن حنبل، وطبقتهم من علماء السنة. 

وهم الذين يقال لهم: السلفية أو الوهابية.

ليس هناك سنّة غيرهم لا على العموم ولا على الخصوص.

وأما أهل الرأي وأهل الكلام، فقد ذهبوا مذاهب شتّى، لأن هاتين المدرستين، لا تعتمد في مصادر تلقيها للعلوم الدينية على القرآن الكريم وعلى السنة النبويّة. 

فأهل الرأي، كل ما استحسنوا شيئاً، جعلوه ديناً، وأهل الكلام، إنما يبنون عقائدهم على ما يستوردونه من فلسفة ملاحدة الإغريق.

وإن خالف النصوص الشرعية، فإن خالف رأيهم آية قرآنية، حرفوا معناها لكي لا تتعارض مع رأيهم، وإن كان حديثاً، إما حرفوا معناه، وإن أعجزهم.

لذلك انبثق عن هاتين المدرستين (أهل الرأي – وأهل الكلام) تسع فرق، وهي: المرجئة والخوارج والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والناصبة والشيعة والصوفية.

وجميع هذه الفرق نشأت بالعراق!

فأول المرجئة هو ذر بن عبدالله الهمداني الكوفي. من أهل الكوفة بالعراق.

والخوارج مذهبان:

الحرورية، وكان مبدأهم من بلدة حروراء بالعراق.

والمعتزلة، وكان أولهم واصل بن عطاء البصري. من البصرة بالعراق.

وأول القدرية معبد الجهني البصري.

وأول الجبرية، الجهم بن صفوان الكوفي.

وأول المعطلة، الجعد بن درهم الكوفي.

وأول الممثِّلة، أوائل الشيعة الرافضة بالكوفة.

وأوائل الناصبة، هم الحرورية بالعراق.

وأول الشيعة الرافضة، نشأ بالكوفة.

وأول الصوفية نشأ بالعراق، وكان ذلك في زمن الإمام أحمد والإمام الشافعي.

إذا جميع هذه الفرق الضالة نشأت بالعراق، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا. فقال بعض الصحابة: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا. فقالوا: وفي نجدنا. قال: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان.

وفي رواية: - اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا ، وبارك لنا في شامنا ويمننا . فقال رجل من القوم : يا نبي الله ! وعراقنا ؟ قال : إن بها قرن الشيطان ، وتهيج الفتن ، وإن الجفاء بالمشرق .

وقد أجمع شرّاح الحديث على أن المراد بنجدنا، العراق، لأن العراق نجد أهل المدينة.

والله أعلم.

وهناك فرقة عاشرة، خرجت من مدرسة أهل الحديث، غلت في تعصبها للسُنَّة، حتى صارت تُقدِّم السُنَّة على القرآن.

حتى قال قائلهم: أن السُنَّة قاضية على القرآن، وأن السُنَّة تنسخ القرآن!

وهذا إفكٌ مُبين.

وأول من زعم بان السنة قاضية على القرآن، هو يحيى بن أبي كثير البصري، ثم المدني، ثم اليَمَامي. 

وهذا الرجل، ولد ونشأ بالبصرة، وتعلم بها، ثم انتقل إلى المدينة، ومكث عشر سنوات يتلقى العلم عن أعيان التابعين، ثم انتقل إلى اليمامة، فمكث بها إلى وفاته، رحمه الله وعفا عنه.

ولذلك، فلا شك أن من يقدم السنة على القرآن مبتدع ضال، فتُلحق هذه الفِرقة بفرق المبتدعة.

وقد انصهرت هذه الفرق العشر، مؤخراً في عِدّة فرق وهم: الصوفية الأشاعرة والصوفية الماتريدية والصوفية الحلولية والشيعة الرافضة والإباضيّة.

ثم المرجئة، وأكثرهم اليوم ينتسب إلى المدرسة السلفية، وهي منهم براء.

ثم الخوارج، وأكثرهم ينتسب إلى المدرسة السلفية وهي منهم براء.

فهذه سبع فرق.

ولا أرى على السُنَّة المحضّة ومذهب السلف الأول، إلا النزر اليسير، نسأل الله السلامة.

لذلك يوصف أهل الحديث بأنهم: أهل السنة والجماعة، لأنهم يدعون الناس إلى الجماعة، بالتقيّد بما ورد في القرآن الكريم، وشرحه بما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوقاله أو أفعاله أو تقريراته.

بينما يوصف أهل الرأي وأهل الكلام، بأنهم أهل البِدع والفرقة، لأنهم يدعون الناس إلى الفرقة، إذ أن لكل طائفة رأياً وكلاماً، في العقائد، يخالف الأخريات، مما يدفعهم إلى التعصب والاختلاف، كما جرى من الاختلاف بين المذاهب الفقهيّة.

ومن العجائب، أن أهل البدع والفرقة، يزعمون اليوم، أن السلفية أو الوهابية، هي الفرقة التي تسعى لتفرقة المسلمين! وكأنهم كانوا على وئام من قبل، حتى جاء الوهابية وفرّقوهم، وهم ما جمعهم خلف إمام واحد بعد أن كانوا لا يصلّي بعضهم خلف بعض سوى الوهابية!

والحقيقة أن أهل البدع، هم أهل الفرقة، لأنهم لا يصدرون عن رأي واحد، ولا عن كلمة واحدة، بل لكل طائفة رأي وكلمة، وكل طائفة ترى أن الحقّ معها، وكل طائفة تبغض الأخرى وتطعن في دينها، ويصل الأمر في كثير من الأحيان إلى تكفيرها.

بل إن ما نراه اليوم من توادٍّ بين أهل البدع والفرقة، إنما هي مودّة زائفة، اقتضتها الضرورة الحتميّة، لمواجهة المدّ الإسلامي الوهابي، الذي يصبوا إلى وحدة الإسلام، تحت مظلة الكتاب والسنة النبويّة.

حتى أنك ترى الإباضي، الذي يرى أن عليّاً كافر في الأخرة، ومخلّدٌ في النار، على مودّة مع الرافضي الذي يؤله عليّاً، والعكس.

وتجد الصوفي الحلولي يوالي الصوفي الأشعري والماتريدي والعكس.

كل هذا نكايةً في الوهابية.

مع أنهم في بطون كتبهم، يلعن بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض، نسأل الله العافية والسلامة.

والله أعلم وأحكم.

مساوئ المذهبية والتمذهب

قرأت لكثيرين من دعاة المذهبية والتمذهب وهم يزعمون أن المذهبيّة والتمذهب ساعدت على وحدة المسلمين، وقرأت لبعضهم أنه قال: عدم التقيّد بمذهب من المذاهب قد يدفع المرء إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال.

والحقيقة أن الحقيقة بخلاف ذلك تماماً.

وكأن قائل ذلك، إنما أراد المغالطة لا أكثر.

فالمذهبية والتمذهب، كانت سبباً رئيسياً في تمزّق المسلمين، وجعلهم فرقاً متناحرة متباغضة، حتى أنه في كثير من الأحيان، كانت تقع بين هذه الفرق حملات حربيّة، قد تزهق فيها الأنفس، وتدمر فيها المساجد والممتلكات.

وأسرد لكم هنا بعض ما عثرت عليه من تلك الحروب المذهبيّة.

ففي سنة 393 هجرية وقعة فتنة بين الشافعية والحنفية ببغداد، وكان سببها أن شيخ الشافعية أبو حامد الإسفراييني (ت406ه) استطاع أن يُؤثر في الخليفة العباسي القادر بالله، ويُقنعه بتحويل القضاء من الحنفية إلى الشافعية، فلما فعل ذلك احتج الحنفية ودخلوا في مصادمات مع الشافعية.

وحدثت فتنة بمدينة مرو ببلاد خُراسان بين الشافعية والحنفية، عندما غيّر الفقيه منصور بن محمد السمعاني المروزي (ت 489ه) مذهبه الفقهي، فانتقل من المذهب الحنفي الذي اعتنقه طوال ثلاثين سنة إلى المذهب الشافعي، وأعلن ذلك بدار الإمارة بمدينة مرو، بحضور أئمة الحنفية والشافعية، فاضطرب البلد لذلك، واضطربت البلد بين الشافعية والحنفية، ودخلوا في قتال شديد، وعمّت الفتنة المنطقة كلها، ما اضطر السمعاني للخروج من مدينة مرو.

ووقعة فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد سنة 573 هجرية، وذلك أنه عندما تُوفي خطيب جامع المنصور محمد بن عبد الله الشافعي سنة 537 هجرية، أراد أصحابه دفنه بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل؛ فاعترض الحنابلة، وابو أن يأذنوا لهم بدفنه هناك، لأنه شافعي وليس حنبليّ، فحدثت فتنة بين اتباع المذهبين تدخل على إثرها الخليفة العباسي المقتفي وأوقفها، وأفشل محاولة الحنابلة منع دفن المتوفى بمقبرتهم، وأمر بدفنه فيها، فتمّ ذلك.

و حدثت فتنة بأصفهان ـ ببلاد فارس ـ بين الشافعية والحنفية، سنة 560 هجرية، وتقدمها عبد اللطيف الخُجنّدي الشافعي، تطوّر إلى نزاع مسلّح، واستمر القتال بين الفريقين لمدة 8 أيام، قُتل منهم خلق كثير، وأُحرقت وخُرّبت منازل كثيرة.

ووقعة فتنة بأصفهان أيضًا، بين الشافعية والحنفية في سنة 582 هجرية، أي بعد 22 سنة من الفتنة الأولى بأصفهان، وقع فيها كثير من القتل والنهب والدمار.

ووقعة فتنة بين الشافعية والحنفية بمدينة مرو أيضًا، زمن الوزير الخوارزمي مسعود بن علي المُتوفى سنة 596 هجرية، فالوزير كان متعصبًا للشافعية، فبنى لهم جامعًا بمرو مشرفًا على جامع للحنفية، فغضب الحنفية وهجموا على الجامع الجديد وأحرقوه، واندلعت فتنة عنيفة مدمرة بين الطائفتين.

وقد ذكر الرحالة ياقوت الحموي (ت 626ه) أن مدينة أصفهان في زمانه عمها الخراب؛ بسبب كثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية، لأن الحروب كانت بينهما متصلة، أي أنها كانت متصلة بين الشافعية والحنفية منذ سنة 560 هجري، وبين ذلك التاريخ وبين زمن ياقوت الحموي 76 سنة.

ونفس الأمر حكاه ياقوت عن مدينة الري ببلاد فارس، فذكر أن هذه المدينة كان أكثرها خرابًا في زمانه؛ بسبب التعصب للمذاهب، فكانت الحروب بين الشافعية والحنفية قائمة، انتهت بانتصار الشافعية، ولم يبق من الحنفية إلَّا من يُخفي مذهبه.

فصار التعصب إلى المذاهب، ليس تعصباً دينياً، بل هو في حقيقته، تعصب جاهليّ، أشبه ما يكون بتعصب الشعوب والقبائل لأعراقها وثقافاتها.

بل إن أصحاب المذاهب الأربعة، لم يكن بعضهم يجيز الصلاة خلف بعض، على مدار أكثر من ألف سنة!

فالحنبلي لا يجيز الصلاة لأتباعه خلف باقي المذاهب، وكذا الشافعي وكذا المالكي وكذا الحنفي.

فقد ذكر ابن جبير الرحّالة، ذاك الصوفي القبوري الملحد، المتوفى سنة 614 للهجرة، في رحلته، أنه في زمن من يلقبه الجهمية والمرجئة "صلاح الدين الأيوبي" وهو فساد الدنيا والدين، كان للحرم المكي أربعة ائمة، على عدد المذاهب الأربعة، كل أهل مذهب لهم جانب من الكعبة.

وذكر بدر الدين الحلبي، المتوفى سنة 1362 للهجرة، في كتابه التعليم والإرشاد، أنه كان في الجامع الأزهر إمامان، إمام للمالكية، وإمام للشافعية، ويظهر انه لم يكن هناك إمام للحنابلة وإمام للأحناف، لضعف هذه الفرق، وقلة عدد أتباعها، أو لعدمها في تلك الحقبة.

ولم يكن الشافعي يجيز لأتباعه الصلاة خلف الإمام المالكي، ولم يكن المالكي، يجيز لأتباعه الصلاة خلف الإمام الشافعي.

وكانا يقيمان الصلاة في نفس الوقت، لأن كلاهما لا يريد أن يكون هو التالي، وكان يحصل بذلك من التشويش على المصلين، بسبب اختلاط أصوات الإمامين والمبلغين عنهما، ما يفسد على الناس الطمأنينة في الصلاة.

وذكر الشيخ محمد سلطان الخجندي المعصومي، المتوفى سنة 1381 للهجرة، في ترجمته لحاله، أنه في زمنه كان للحرم المكي أربعة أئمة أيضاً، على عدد المذاهب الأربعة، كل أهل مذهب لهم جانب من الكعبة.

وهذا يعني أن هذا الحال، استمر من زمن فساد الدنيا والدين الأيوبي، إلى زمن الشيخ المعصومي، أي أكثر من ألف سنة.

مع العلم أن جميع هؤلاء المتمذهبون، على عقيدة الأشاعرة، أي: أنهم جميعاً على عقيدة فاسدة واحدة، ومع اتفاقهم على معتقدهم الفاسد، إلا أن ذلك، لم يمنعهم من الاختلاف والتمزق والتفرق بسبب اختلاف المذاهب الفقهيّة!

ولم يجمعهم خلف إمام واحد، سوى الملك عبدالعزيز آل سعود، الوهابيّ، طبعا أهل الأهواء والبدع والزيغ والضلال، يحاولون اتهام الوهابية بأنهم "سبب فرقة المسلمين" نكاية في الوهابية ومغالطة للحقيقة، لينفروا الناس عن الحق، ويجعلونهم يقبلون على باطلهم، فعندما فتح الملك عبدالعزيز الحجاز، وأدخلها تحت حكمه، أمر بأن تقام الصلاة لكل إمام من أصحاب المذاهب الأربعة، ويصلي الجميع خلفه، ثم أقصاهم فيما بعد واستبدلهم بأئمة من المسلمين الموحدين.

والمذهبيّة والتمذهب، هي التي تدفع الشخص إلى تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله تعالى، ذلك أن المتمذهب، سوف يتمسك بقول مشايخ مذهبه، وإن خالف قولهم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، بدعوى أن مشايخ مذهبه أعلم منه بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينظر في أقوال غيره من أهل المذاهب الأخرى، لاعتقاده بخطئهم وضلالهم، أو حباً لمشايخه وعدم رغبته في مخالفتهم، وهذا أشهر من أن ينبّه عليه، فكيف يقال بعد هذا، أن المذهبية والتمذهب تحفظ العبد من أن يخالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم!!

إذا الذي يدعو إلى المذهبيّة والتمذهب، هو أحد شخصين:

إما شخص جاهل وجمع مع الجهل حمقاً وغباوة، فهو يردد ما يقال له ترديد الببغاء، دون عقل أو بصيرة.

وإما شخص كذاب محتال، يدعو إلى المذهبيّة والتمذهب، مع علمه بمفاسد ذلك، ولكن إما لأنه ينتفع من ذلك مادياً، أو أنه يعجبه أن يفسد الناس ويفترقوا، ويخالفوا كتاب ربهم وسنة نبيه، لما جُبِلت عليه نفسه الشيطانية من حب الفساد والإفساد.

والمسلمون ليس لهم إلا مذهب واحد، هو مذهب محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي، ليس للمسلمين مذهب غيره.

ومن العجب العجاب، أنك تجد كثير ممن يتحلى بحلية العلماء أو بحلية طلّاب العلم، يسرد عليك الكثير من الآيات والأحاديث في وجوب التمسك بهدي الكتاب والسنة، ثم تجده في نفس الوقت يدعوك إلى المذهبية والتمذهب، ذلك لأنه لا يعقل ما يقول عندما أمر الناس بالتمسك بالكتاب والسنة، إنما يسمع الناس يتكلمون عن أمر فتكلم فيه، وهو لا يعيه، والعمى عمى البصيرة.

فلا تغتروا بدعاوى المبطلين، ولا بزخارف المبدلين، ولا ببهرجة أعداء الكتاب والسنّة.

وأريد هنا أن أعلق على رسالة منسوبة للشيخ ابن رجب الحنبلي، بعنوان: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة. 

وأنا أتقصد عادة الرد على كبار مشايخ السلفية، لأني أراهم هم أقر بالناس إلى الحق، وهم حملة الدين حقيقة، فإذا اخطؤوا كان خطؤهم كمسمار دُق في نعش السلفية، فيجب التنبيه على هذه الأخطاء حتى لا يُتابعوا عليها.

حيث دعا في كتابه المذكور إلى التمسك بأحد المذاهب الأربعة، بل زعم، أن حصر الناس في التمذهب على أصحاب المذاهب الأربعة، هو كحصر عثمان بن عفان للناس على قراءة واحدة. 

والأدهى من ذلك، أنه يصف المعترض على قوله، بالحمق، وما جرّه إلى إساءة الأدب مع مخالفه، إلّا إرادة التظاهر ببطلان قوله وشناعته، ومحاولة ترويع القارئ، واضطراره إلى قبول قوله حتى لا يقع عليه وصف الحمق، الذي أنعم به ابن رجب على مخالفيه!

مع أن الحقيقة أن قول ابن رجب هو الباطل وهو الشنيع، لمخالفته الأدلة الشرعية، القاضية باتباع كتاب الله وسنة نبيه.

وكيف يشبه دعوته للناس على أن يفترقوا على أربعة مذاهب، بدعوة أمير المؤمنين عثمان بن عفان للناس على أن يقرؤوا بحرف واحد. 

ألا يفرق ابن رجب بين الأربعة والواحد؟!

لو قال ابن رجب، يجب أن ندعو الناس إلى مذهب واحد وهو مذهب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، القائم على الأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالأخذ بما صح عن الصحابة رضوان الله عليهم، ثم بالأخذ بما صحّ عن التابعين وتابعي التابعين رحمهم الله، وما لم يرد فيه شيء عن هؤلاء السلف من المسائل الحادثة، اجتهد كل عالم رأيه، وقاس قوله هذا على ما فعله عثمان من جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد، لقلنا هذا قياس صحيح، ودعوة صحيحة.

أما أن يقيس دعوته للناس إلى أربعة مذاهب متناحرة، بدعوة أمير المؤمنين عثمان بن عفان للناس إلى قراءة واحدة، فهذا بعيد كل البعد عن الصواب.

مع أن أكثر المذاهب تتبدل أقوالهم وتتغيّر اجتهاداتهم مع الزمان، فالحنابلة نشأ فيهم مجتهدون خالفوا أحمد في كثير من المسائل، وكذا الشافعية والمالكية والحنفية.

فبأي قول يلتزم الحنبلي وبأي رأي يأخذ، بقول لمتقدمين من الحنابلة أم بقول المتأخرين؟ وكذا نقول عن الشافعية والمالكية والحنفية.

ثم يقول ابن رجب: أنه يعني بدعوته إلى التمسك بأحد المذاهب الأربعة، من لم يكن له علم وبصر بالحديث.

وهذا بحد ذاته خطأ، لأن الواجب على العلماء ابتداء أن لا يفترقوا على أحد المذاهب الأربعة، بل يلتزمون مذهبا واحدا هو مذهب محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومذهب السلف الصالح الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وما كان من المسائل الحادثة، يجتهد كل عالم رأيه ولا يأطر أحداً على رأي أحد.

فإذا التزموا بالمذهب الواحد، لم يكن لغيرهم أن يلتزم إلا ما التزموه.

والعجيب، أنه يجتهد في تلميع المذاهب الأربعة وتحسينها، بادعاءه أن الله تعالى قيض الأئمة الأربعة، لحفظ دين الله تعالى، فأي حفظ هذا الذي يجر أتباع هذه المذاهب إلى مخالفة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فضلا عن اختلافهم في الكثير من أراءهم، ثم يدفعهم ذلك إلى التناحر والتباغض والإقتتال.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم. 

هل السنة تنسخ القرآن؟

السُنَّة، لا تنسخ القرآن، فالقرآن كلام الله عز وجل الذي تكلّم به، وإن كانت السنّة من حيث كونها شرع ووحي من الله، كالقرآن، ولكنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والخيرية هنا والتماثل مطلقة، تعني الخيرية من جميع الوجوه والتماثل من جميع الوجوه، وكلام المخلوق لا يكون خيراً من كلام الخالق عز وجل، ولا مثيلاً له، فثبت بذلك أن السنّة لا تنسخ القرآن.

لذلك لا يمكن أن ينسخ القرآن، إلّا قرآن مثله.

والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخ مِن ءَایَةٍ أَو نُنسِهَا نَأتِ بِخَیر مِّنهَاۤ أَو مِثلِهَاۤ أَلَم تَعلَم أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیء قَدِیرٌ﴾ [البقرة ١٠٦]

كما أن دور النبي صلى الله عليه وسلم، هو بيان ما أجمل حكمه أو أشتبه معناه من آي القرآن، وتخصّص عامه، وتعمّم خاصّه، وليس دوره إبطال الأحكام القرآنية ونسخها!

قال تعالى: ﴿بِٱلبَیِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلنَاۤ إِلَیكَ ٱلذِّكرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیهِم وَلَعَلَّهُم یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل ٤٤]

وقد ادعى بعض من يزعم أن السنة تنسخ القرآن، بأن النسخ من البيان، وهذا سفه وعته، فالبيان شيء والنسخ شيء أخر، البيان شرح للنص، والنسخ إبطال له، فأين البيان من النسخ.

وكذلك النبي قد يسن حكماً زائدا على الشرع، لعلّة شرعيَّة يتضمّنها القرآن ابتداءً، ولم يأتي القرآن ببيانها، فبيّنها بالسُنَّة.

ولا يوجد دليل أساساً على وقوع مثل هذا النسخ، والأحاديث التي قُدِّمت لإثبات هذه الدعوى، لا تفيد ذلك، وإنما جاء هذا الادعاء من سوء فهم من ادعى هذه الدعوى.

وسوف نأتي عليها إن شاء الله لبيان خطئهم في ذلك.

فقد احتجوا بحديث تحريم لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر، وزعموا أن هذا ينسخ قوله تعالى: ﴿قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِم یَطعَمُهُۥ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیتَةً أَو دَما مَّسفُوحًا أَو لَحمَ خِنزِیر فَإِنَّهُۥ رِجسٌ أَو فِسقًا أُهِلَّ لِغَیرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضطُرَّ غَیرَ بَاغ وَلَا عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُور رَّحِیم﴾ [الأنعام ١٤٥]

وهذا قول ساقط.

لأنه بناء على ادعائهم، فقد بطل تحريم الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وذبائح المشركين لأوثانهم، لأن النسخ يبطل حكم الآية بالكلية.

وهذا ما لا يقول به حتى من يدعي أن السنة تنسخ القرآن، بل هم عاملون بهذه الآية، فكيف يقولون بعد هذا أنها منسوخة بالحديث؟!

والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلّم استثنى لحوم الحمر الأهلية من بين الحيوانات العاشبة، لنجاسة لحمها في رواية.

فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا، سنّ حكما زائداً على الآية ولم ينسخها.

وهذا مثل تحريم أهل العِلم لأكل الفأر، مع أنه لم يرد في الكتاب أو السنة حرمة أكله تصريحاً، وإنما جاءت الإشارة بنجاسته وبقتلها في الحِلّ والحرم، ولكن لمّا عُلِمت نجاسته، قيس بالخنزير، فحُرِّم أكله.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم، حرّم أكل لحوم الجلَّالة وشرب ألبانها، والجلّالة هي التي تأكل الدمن، من الأنعام، وذلك أن لحومها تنجس بسبب ما تأكله من نجاسات، فحرم أكلها لأجل ذلك.

وهذا الأصل، وهو تحريم أكل النجاسات، موجود في القرآن! 

مع أن تحريم لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة فيه بحث طويل، وهل تحريمهما كان مؤبداً أو مؤقتاً، ليس هذا موضعه.

وكذلك حرّم النبي صلى الله عليه وسلم، الوشم، لأنه تشويه للخلقة، وهذا الأصل موجود في القرآن.

وكذلك حرّم وصل الشعر والنمص، لما فيه من الغِشّ والخِداع، وأصل تحريم الغِشّ والخِداع موجود في القرآن.

فكل ما حرّمه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من البيان، لأن أصل الحكم موجود في القرآن سلفاً.

واحتجوا بما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات".

قالوا: ولا نجد الخمس رضعات في القرآن، فدل هذا على أن هذا الحديث، نسخ آية العشر رضعات.

قلت: وهذا قول باطل، فقد ذكر الرواة الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت: "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن".

إذا حسب حديث عائشة، أن آية الرضاعات العشر نسخت بأية قرآنية أخرى أمرت بخمس رضعات فقط. ولم ينسخها الحديث.

ولكننا لا نجد الخمس رضعات في القرآن أيضاً، فتبيّن أن أمّ المؤمنين إما نسيت أو أخطأت، أو أن أحد الرواة وهم في رواية هذا الخبر عنها.

ولذلك قال الإمام مالك: "وليس على هذا العمل".

أي: ليس العمل على حديث عائشة عند أهل المدينة، وأن هذا الحديث لا يصحّ متنه، بدلالة أن القرآن لم يرد فيه شيء عن عدد الرضعات لا عشر ولا خمس، وإنما هي أمور قدرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجبها.

وكان الإمام مالك يقول: بأن المصة والمصتان تحرم، كما في المدونة.

لذلك لا يحتج بحديث عائشة في ادعاء أن الحديث ينسخ القرآن.

واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا وصية لوارث" وزعموا أنها ناسخة لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَیكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلمَوتُ إِن تَرَكَ خَیرًا ٱلوَصِیَّةُ لِلوَ ٰلِدَینِ وَٱلأَقرَبِینَ بِٱلمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ١٨٠]

وهذا قول باطل.

لأنهم فسّروا الوالدين في الآية، بالأب والأم، فإن كان ما ذهبوا إليه صحيحاً، فالجواب: أن هذ الآية إنما نزلت قبل أن تفرض الفرائض، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه الآية. فالقرآن هنا نسخ القرآن، وإنما الحديث ورد لبيان أنه بعد أن فرض الله الفرائض لم يعد هناك مكان للوصية، لأن الله فرغ من ذلك، لا أن هذا الحديث نسخ الآية! 

فهذا بيان من النبي أن آية المواريث نسخة آية الوصيّة، فلم يعد للوارث وصيّة.

وقد يُراد بالوالدين في الآية، الجدّ والجدّة، فهما والدان، فيكون معنى الآية، إذا كان جدّ وجدّة المتوفى أحياء، وليس لهم نصيب من الميراث، فمن البرّ أن يوصي حفيدهما لهما بشيء من المال، وكذلك بعض قرابته.

ومن ذلك أحاديث الرجم، زعموا أنها ناسخة لآية الجلد في سورة النور، في قوله تعالى: ﴿ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجلِدُوا كُلَّ وَ ٰحِد مِّنهُمَا مِائَةَ جَلدَةۖ وَلَا تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَة فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلیَومِ ٱلـَٔاخِرِۖ وَلیَشهَد عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَة مِّنَ ٱلمُؤمِنِینَ﴾.

وهذا باطل.

وقد صحّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه أقام الحدّ على امرأة متزوجة قد زنت، فضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة نبي الله صلى الله عليه وسلم".

فهل رأيتم علي بن أبي طالب، زعم أن آية النور منسوخة، أم على الله وعلى رسوله تفترون!

وفي مسألة الرجم، بحثٌ طويل، ليس هذا موضعه.

ولكن، قد ورد في السُنَّة، أنه لا يلزم تطبيق حدّ الرجم، كما في خبر ماعز الأسلمي، فلو كان الرجم فرضاً من الله تبارك وتعالى، ولو كان على لسان نبيِّه، للزم تطبيقه، ولم يسقط بأي حال، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسقط حد القطع عن السارق، حتى بعد أن صفح عنه المسروق.

فثبت بذلك، أن أحاديث الرجم، لم تنسخ آية الجلد في سورة النور.

وقد احتج بعض متأخريهم بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نفسي بيدِه ليوشِكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكمًا مقسطًا فيَكسرُ الصَّليبَ ويقتلُ الخنزيرَ ويضعُ الجزيةَ ويفيضُ المالُ حتَّى لا يقبلَه أحدٌ"

وقالوا: بأن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: ﴿لَاۤ إِكرَاهَ فِی ٱلدِّینِ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشدُ مِنَ ٱلغَیِّ فَمَن یَكفُر بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱستَمسَكَ بِٱلعُروَةِ ٱلوُثقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ [البقرة ٢٥٦]!

وهذا باطل.

وذلك أن كسر عيسى للصليب وقتله للخنزير، لا يعني بالضرورة أنه يجبر النصارى أو غيرهم على الإسلام، بل قد يفعل ذلك لأمرين:

الأول: ربما يفعل ذلك إرغاماً لهم، وللدلالة على كذبهم في دعوى صلبه وبطلان دينهم، ولكنه لا يرغمهم على ترك دينهم، لأنه قد يبقى على النصرانية من هو نصراني، لكونه لم يؤمن بصدق عيسى عندما ينزل من السماء.

والثاني: أنه ربما يفعل ذلك لأن النصارى يدخلون في دين الله راغبين وراهبين، لما رأوا ما مع عيسى من الآيات الدالة على صدقه ونبوّته، فلا يوجد من يعبد الصليب أو يأكل الخنزير.

لأنه لم يرد أن عيسى عليه السلام يجبر النصارى على الإسلام، حتى يقال بأن هذا الحديث نسخ القران.

وأما قوله: "ويضع الجزية" فله تأويلان:

التأويل الأول: أنه يتركها لأن النصارى وغيرهم من الأمم أسلموا راغبين وراهبين.

والتأويل الثاني: أنه يفرضها عليهم، فتكون وضع الجزية، بمعنى فرض الجزية، لأن من النصارى من لم يؤمن به، وبقي على نصرانيّته.

والراجح، أن من اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى من يبقى على دينه أثناء بقاء عيسى وبعد وفاته، وأن عيسى يضع الجزية عليهم، أي: يفرضها عليهم، بعد أن لم يكن المسلمون يأخذون الجزية على الكفار، لضعفهم، وبعدهم عن الالتزام بالدين وتعاليمه، وتعاقبهم على ذلك.

ولا أدل على ذلك، من أنه ورد في أحاديث علامات الساعة، أن الكفّار يبقون على كفرهم في زمن عيسى عليه السلام وبعد وفاته، حتى أن الدابة تسم الناس هذا مسلم وهذا كافر، وأن الله يبعث ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، فلا يبقى سوى الكفار، وعليهم تقوم الساعة.

فإذا أجبر عيسى الناس على الإسلام، توارثوه، فمن هم الكفار الذين سوف تسمهم الدابة ويبقون بعد المؤمنين عندما يقبض الله أرواحهم؟!

ولو صح أن عيسى يجبر الناس على الإسلام في أخر الزمان، فهذا الحديث إنما هو إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يقع في أخر الزمان، ولم ينسخ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وإنما أخبر أنه سوف ينسخ بأمر الله تعالى لعيسى بذلك، فما شأن السنة هنا بالنسخ!

فكيف يقال بعد هذا أن هذا الحديث ناسخ للقرآن!

إذا هذه الأحاديث وشبهها مما يحتج به من يدعي أن السنة تنسخ القرآن، ليس فيها حجة على دعواهم، إنما أُتي من سوء فهمهم، فالقرآن لا ينسخه سوى القرآن، وأما السنة فينسخها القرآن وتنسخها السنة أيضاً.

فكلام الله تبارك وتعالى الذي هو كلامه، يَعلو ولا يُعلى عليه.

ولذلك لما سئل الإمام أحمد بن حنبل، عن قول ابن أبي كثير: "السُنة قاضية على الكتاب" ما تفسيره؟ قال: "أجبن أن أقول فيه، ولكن السُنّة تفسِّر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلّا القرآن". اهـ

رواه ابو داود في مسائله.