تكلمت في الحلقات السابقة عن المسائل التي يعذر فيها المخالف والمسائل التي لا يعذر فيها المخالف.
وهذه المسائل، إنما يراد بها بيان من يستوجب العقوبة قبل قيام الحجة، ومن لا يستوجب العقوبة إلّا بعد قيام الحجة، فقط.
وليس المراد منها بيان من وقع في الكفر ومن لم يقع.
فتلك مسألة أخرى.
ومسألة التكفير، واضحة في بعض المسائل وضوحاً يمكن للصبي أن يبتّ فيها، وذلك لوضوح الأدلة الشرعية بل والأدلة العقلية والفطريّة في بيان كفر المخالف فيها.
ولكنها في بعض المسائل خفيّة، وفيها نوع من التعقيد، وخاضعة للاجتهاد والرأي، لأنه لا يوجد نص صريح من القرآن أو السنة في البت في الحكم فيها، وإنما يبني العلماء حكمهم على مرتكبها بناء على مدى مخالفة بدعته للكتاب والسنة وأصول الدين، وأثر بدعته في الإسلام.
وهذا عادة ما يكثر في المسائل التي يُحتاج فيها إلى إقامة الحجة، كما تعتمد على قوة الشبهة التي طرأت على المخالف، فبعض الشُبه قويّة، لأن في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نصوص متشابهات، يكون ظاهرها موافقاً لتلك البدعة، ولم يهتد المخالف إلى تأويلها الصحيح، من المحكم من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبر العلماء بنيّة الشخص في هذه المسائل.
ولذلك نجد أئمة السنة المتقدمين، أئمة أهل الحديث، السلف الأول، يختلفون في تكفير شخص، فبعضهم يقطع بكفره، وأخر يشك فيه، وبعضهم يفرق بين العالم والعامي، فيكفر العالم، ولا يكفر العامّي، والعامّي عندهم، هو من لم يكن متخصصاً في هذه المسائل.
والأمثله من كتب السلف كثيرة، لمن تمعّن فيها.
ولكن كما قلت سابقاً، إنما هذه في المسائل التي يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، لا في المسائل التي لا يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، كون الحجة فيها هو العقل الصحيح والفطرة السليمة.
وهو ما سوف نبيّنه إن شاء الله تعالى.
ونشرع الآن في المقصود، فأقول مستعيناً بالله وحده لا شريك له.
أنني ذكرت سابقاً أن المسائل قسمين:
قسم لا يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة، وقسم يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة.
فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف على قسمين:
قسم يكفر فيه المخالف فور وقوعه فيها، وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وما يتعلّق بهاتين المسألتين من صفات الله تعالى.
وسوف نفرد هذه المسألة بحلقة مستقلة، نزيدها إن شاء الله بياناً ووضوحاً.
وقسم لا يكفر فيه المخالف، مثل: اللواط والزنا ونحوة ذلك، مما ذكرته سابقاً في حلقة: المسائل التي لا يعذر المخالف فيها.
وهذا القسم، لا يكفر المخالف فيها، إلا أن يستحلّها، أي: يدعي أنها حلال عند الله تعالى، وبعد قيام الحجة عليها فيها بأنها محرَّمة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لأن حرمتها عند الله تعالى، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، وهذا فقط في حكمها عند الله، وأما في العقل الصحيح والفطرة السليمة، فهي محرمة قطعاً، والمخالف فيها مستوجب للعقوبة، دون أن تبلغه حجة.
فبما أن حرمتها عند الله ورسوله، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فلم يكفر مستحلها، حتى تبلغه الحجة بذلك.
والسبب في كفره هنا، أنه مكذّب بآيات القرآن والأحاديث الصحاح المقبولة، وأقول المقبولة، لأن هناك أحاديث صحيحة الإسناد ولكنها باطلة المتن، ويحكم عليها بأنها شاذّة. والمكذب بآيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة المقبولة كافر، لأنه مكذّب لله ولرسوله.
وأما المسائل التي يعذر فيها المخالف، فهي على قسمين أيضاً:
قسم يكفر فيه المخالف بعد قيام الحجة، وإن لم يستحل المخالفة فيها، وهذا ينحصر في فريضة الصلاة، وسوف نفرد حلقة مستقلة إن شاء الله في مسألة كفر تارك الصلاة، ونورد الأدلة هناك.
وأيضاً، خمسٌ من أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الأخر والقدر خيره وشره.
فهذه المسائل، يكفر المخالف فيها بعد قيام الحجة، وهذه المسائل ليس فيها استحلال، بل إنكار، وهو تكذيب للمُخبر، بما أخبر به.
وقسم لا يكفر فيه المخالف حتى بعد قيام الحجة، إلا بعد أن يستحل، وهذا في باقي أركان الإسلام الخمس، وهي الزكاة والصوم والحج. وباقي شرائع الإسلام من أوامرٍ أو نواهٍ إلهيَّة.
فهذه المسائل، لا يكفر فيها المخالف، إلا
وسوف أبيّن كل ما سبق في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.
فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف، على قسمين:
القسم الأول: يكفر بها المخالف فور مخالفته فيها، وإن لم تبلغه حجة، لأن العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الحجة فيها، وهذا القسم ينحصر في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وما يتضمنه من توحيد الملك وتوحيد الخلق وتوحيد الأمر والتدبير.
والقسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بالعبادة، وأهمها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وما يتعلّق بها من الذبح والنذر والصدقة.
والدليل في هذين القسمين، قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
وقد ذكرت في المحاضرة السابقة والتي بعنوان: المسائل التي لا يعذر فيها المخالف. الأحاديث النبوية الدالة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية، وإن لم تبلغه حجة، فأغنى عن إعادتها هنا.
والقسم الثالث: صفات الله تبارك وتعالى المتعلقة بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتي في عدم الإيمان بها وإثباتها لله عز وجل، قدح في ربوبيته أو ألوهيته، وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والملك، والخلق، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.
والأدلة على كفر من عطّل هذه الصفات، هي الأدلة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية.
وأنبه هنا: أني في الحلقة السابقة بعنوان: المسائل التي يعذر فيها المخالف، ذكرت الصفات التي لا يعذر فيها المخالف، ولكني نسيت أن أذكر الحياة والملك، ولذلك استدركتها هنا.
وأما صفة العلو الذاتي، مع أنها ثابتة بالفطرة، إلا أنه إذا شبّه على المسلم فيها، ولبّس عليه، وكان تعطيله لها ناشيء عن جهل وقوة شبهة، وليس عن كِبر وتعصب واتباع للهوى، فأرجوا أن المسلم لا يؤاخذ بها.
والسبب أن نفي هذه الصفة قد لا يكون من القدح في ربوبية الله وألوهيته، إذا كان العبد مقراً بربوبية الله وألوهيّته.
وقد رأيت أناساً كانوا على الشرك الأكبر والإلحاد في صفات الله تعالى، ثم تابوا عن الشرك وفاءوا إلى الإسلام، ولكن بقيت عقدة التعطيل عندهم ملازمةً لهم، ظناً منهم ألأن هذا تنزيه لله تعالى وتقديس له، منهم: المقريزي والشوكاني وشريكت سنكلجي والبرقعي وأمثال هؤلاء، فقلت: لا أظن الله تبارك وتعالى هداهم إلى توحيده في ربوبيته وألوهيته بعد ما كانوا عليه من الشرك، إلا وهو يريد بهم خيرا، والله أعلم.
وباقي صفات الله تعالى مثل صفة العلو، فإن كان ضلال المسلم فيها ناشئ عن جهل وقلّة بصيرة، وشبهة قويّة عرضت له، ولم يكن إعراضه عن إثباتها كِبرٌ على الحق، وتعصب للباطل، واتباع للهوى، فأرجو أنه معذور غير مأزور.
فرؤوس المعطلة احتجوا بآيات وأحاديث يشتبه على السامع أمرها، كقوله تعالى: (وهو معكم اينما كنتم) وقوله: (وهو اقرب إليه من حبل الوريد) والحديث الذي رواه أحمد وغيره، من أن الله خلق الرحمة. فنصّ على أن الرحمة مخلوقة، ففرحوا بهذا الحديث وقالوا إذا كانت الرحمة مخلوقة وهي صفة من صفات الله فهذا يدل على أن صفات الله مخلوقة.
إذا هناك ما يجعل بعض من لا علم عنده ولا يفقه هذه المسائل، تشتبه عليه هذه المسألة، لأنه فسّرت له على غير تفسيرها الصحيح.
وهو وإن كان لازم قول معطلة الصفات نفي وجود الله تعالى، إلا أنهم لا يلتزمون هذا اللازم، بل هم مقرون بوجود الله تعالى.
وأما إن كان تعطيله لصفات الله تعالى، وإعراضه عن الإقرار بها، ناشئ عن كِبرٍ عن قبول الحق، وتعصّب للباطل وأهله، من المشايخ والأصحاب، واتباع للهوى، فذاك الكافر حقا.
وبما أن الكِبر والتعصّب واتباع الهوى مسألة نفسيّة، لا يمكن معرفتها على وجه الدقّة، لم يمكن البتّ في الحكم بالمخالف في باب الصفات، حتى يجهر بذلك بلسانه، ويقر أنه يعلم أن الحق مع مخالفه ولكنه يريد أن يتبع كبراءه ومشايخه.
وأما إذا لم يجهر بذلك بلسانها، فإن الحكم يبقى معلّقاً في حقه، بحسب نيّته، وعلى هذا فتجرى عليه أحكام الإسلام، ويٌنظر إليه على أنه مسلم.
ولكن شرط أن يكون مقراً بتوحيد الربوبية والألوهية، فإن لم يقر بهما أو أحدهما؟، فذاك المشرك حقاً ظاهراً وباطنا|ً.
إنما الخلاف والتردد في حق المقر بتوحيد الربوبية والألوهية والصفات المتعلقة بهما، ولكنه لزم التعطيل في باقي الصفات، وأبى الإقرار بصفات الله تعالى لِمَا عرضت له من شُبَه.
وفي باب الصفات تفصيل أخر، وهو:
أن المخالفين في باب الصفات على قسمين: هما: الممثِّلة والمعطلة.
والممثلة قسمان:
الأول: يمثّل صفات المخلوقين بصفات الله تعالى في كمالها الذي لا يستحقه إلا الله تعالى، وهذا لا يقع إلا من مشرك في الربوبية والألوهية، كاذبٌ على الله وعلى رسوله، وهذا مشرك وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد قدح وشرك في ربوبية الله وألوهيته.
والثاني: يمثِّل صفات الله تعالى بصفات المخلوقات بما فيها من كمال أو نقص، فهذا معذور بجهله، لأن علم كمال صفات الله تعالى، لا يدرك إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فإن أصر على قوله بعد البيان فقد كفر كفراً أكبر.
والمعطلة قسمان:
القسم الأول: من يزعم أن الله في كل مكان، ولكنه لا يقول بأن الله حال ومتحد مع خلقه، بل يفصل بينهما، ومن يزعم أن الله تعالى بلا مكان، ويحتجون بالآيات والحديث السابق، فهؤلاء معذورون بالجهل حتى تقام عليهم الحجة.
والقسم الثاني: وهم الحلولية، الذين يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه حال ومتحد مع خلقه، أو يقولون بأن الله تعالى هو الوجود والوجود هو الله، وهذا الاعتقاد لا يقع إلا من مشرك شركاً أكبر، فهذا كافر كفرا أكبر وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد شرك في ربوبية الله وألوهيته.
والقسم الثاني من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف، هي: اللواط والزنا .. وإلى أخره، من الأعمال التي ذكرتها في حلقة المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.
فهذا القسم لا يكفر فيه المخالف إلا بعد بلوغ الحجة مع الاستحلال، أي: زعم أنها حلال وليست حراماً.
فلو بلغته الحجة وفعلها ولكنه لم يستحل، اي: مقرّ بأنها حرام في كتاب الله وسنة نبيّه، ولكن لضعف نفسه، وغلبت شهوته، فعلها، فهذا لا يكفر، بل هو مسلم عاصٍ.
نأتي الآن إلى المسائل التي يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي من ناحية التكفير على قسمين:
القسم الأول: يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وإن لم يستحل المخالفة فيها تركها، وهذا ينحصر في الصلاة، دون غيرها من العبادات والشرائع. وفي ذلك أحاديث، وسوف نفرد في مسألة تارك الصلاة حلقة مستقلة إن شاء الله تعالى.
والقسم الثاني: لا يكفر حتى بعد إقامة الحجة عليه، إلّا إذا استحلّ المخالفة فيها، وهذا القسم، يشمل باقي العبادات مثل الزكاة والصوم والحج، وجميع الشرائع.
فلا يكفر المخالف فيها، حتى لو قامت عليه الحجة، إلا بعد الاستحلال.
أي أنه ينكر أنها فرض من الله تعالى، مع أنه أبلغ أنها فرض، وقرئ عليه القرآن والأحاديث النبويّة.
والسبب في تكفير جميع هؤلاء، هو أنهم مكذّبون بما جاء عن الله وعن رسوله، وحكم المكذّب لهما أنه كافر كفراً أكبر، عياذا بالله من الضلال.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.