الاثنين، 15 يناير 2024

مساوئ المذهبية والتمذهب

قرأت لكثيرين من دعاة المذهبية والتمذهب وهم يزعمون أن المذهبيّة والتمذهب ساعدت على وحدة المسلمين، وقرأت لبعضهم أنه قال: عدم التقيّد بمذهب من المذاهب قد يدفع المرء إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال.

والحقيقة أن الحقيقة بخلاف ذلك تماماً.

وكأن قائل ذلك، إنما أراد المغالطة لا أكثر.

فالمذهبية والتمذهب، كانت سبباً رئيسياً في تمزّق المسلمين، وجعلهم فرقاً متناحرة متباغضة، حتى أنه في كثير من الأحيان، كانت تقع بين هذه الفرق حملات حربيّة، قد تزهق فيها الأنفس، وتدمر فيها المساجد والممتلكات.

وأسرد لكم هنا بعض ما عثرت عليه من تلك الحروب المذهبيّة.

ففي سنة 393 هجرية وقعة فتنة بين الشافعية والحنفية ببغداد، وكان سببها أن شيخ الشافعية أبو حامد الإسفراييني (ت406ه) استطاع أن يُؤثر في الخليفة العباسي القادر بالله، ويُقنعه بتحويل القضاء من الحنفية إلى الشافعية، فلما فعل ذلك احتج الحنفية ودخلوا في مصادمات مع الشافعية.

وحدثت فتنة بمدينة مرو ببلاد خُراسان بين الشافعية والحنفية، عندما غيّر الفقيه منصور بن محمد السمعاني المروزي (ت 489ه) مذهبه الفقهي، فانتقل من المذهب الحنفي الذي اعتنقه طوال ثلاثين سنة إلى المذهب الشافعي، وأعلن ذلك بدار الإمارة بمدينة مرو، بحضور أئمة الحنفية والشافعية، فاضطرب البلد لذلك، واضطربت البلد بين الشافعية والحنفية، ودخلوا في قتال شديد، وعمّت الفتنة المنطقة كلها، ما اضطر السمعاني للخروج من مدينة مرو.

ووقعة فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد سنة 573 هجرية، وذلك أنه عندما تُوفي خطيب جامع المنصور محمد بن عبد الله الشافعي سنة 537 هجرية، أراد أصحابه دفنه بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل؛ فاعترض الحنابلة، وابو أن يأذنوا لهم بدفنه هناك، لأنه شافعي وليس حنبليّ، فحدثت فتنة بين اتباع المذهبين تدخل على إثرها الخليفة العباسي المقتفي وأوقفها، وأفشل محاولة الحنابلة منع دفن المتوفى بمقبرتهم، وأمر بدفنه فيها، فتمّ ذلك.

و حدثت فتنة بأصفهان ـ ببلاد فارس ـ بين الشافعية والحنفية، سنة 560 هجرية، وتقدمها عبد اللطيف الخُجنّدي الشافعي، تطوّر إلى نزاع مسلّح، واستمر القتال بين الفريقين لمدة 8 أيام، قُتل منهم خلق كثير، وأُحرقت وخُرّبت منازل كثيرة.

ووقعة فتنة بأصفهان أيضًا، بين الشافعية والحنفية في سنة 582 هجرية، أي بعد 22 سنة من الفتنة الأولى بأصفهان، وقع فيها كثير من القتل والنهب والدمار.

ووقعة فتنة بين الشافعية والحنفية بمدينة مرو أيضًا، زمن الوزير الخوارزمي مسعود بن علي المُتوفى سنة 596 هجرية، فالوزير كان متعصبًا للشافعية، فبنى لهم جامعًا بمرو مشرفًا على جامع للحنفية، فغضب الحنفية وهجموا على الجامع الجديد وأحرقوه، واندلعت فتنة عنيفة مدمرة بين الطائفتين.

وقد ذكر الرحالة ياقوت الحموي (ت 626ه) أن مدينة أصفهان في زمانه عمها الخراب؛ بسبب كثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية، لأن الحروب كانت بينهما متصلة، أي أنها كانت متصلة بين الشافعية والحنفية منذ سنة 560 هجري، وبين ذلك التاريخ وبين زمن ياقوت الحموي 76 سنة.

ونفس الأمر حكاه ياقوت عن مدينة الري ببلاد فارس، فذكر أن هذه المدينة كان أكثرها خرابًا في زمانه؛ بسبب التعصب للمذاهب، فكانت الحروب بين الشافعية والحنفية قائمة، انتهت بانتصار الشافعية، ولم يبق من الحنفية إلَّا من يُخفي مذهبه.

فصار التعصب إلى المذاهب، ليس تعصباً دينياً، بل هو في حقيقته، تعصب جاهليّ، أشبه ما يكون بتعصب الشعوب والقبائل لأعراقها وثقافاتها.

بل إن أصحاب المذاهب الأربعة، لم يكن بعضهم يجيز الصلاة خلف بعض، على مدار أكثر من ألف سنة!

فالحنبلي لا يجيز الصلاة لأتباعه خلف باقي المذاهب، وكذا الشافعي وكذا المالكي وكذا الحنفي.

فقد ذكر ابن جبير الرحّالة، ذاك الصوفي القبوري الملحد، المتوفى سنة 614 للهجرة، في رحلته، أنه في زمن من يلقبه الجهمية والمرجئة "صلاح الدين الأيوبي" وهو فساد الدنيا والدين، كان للحرم المكي أربعة ائمة، على عدد المذاهب الأربعة، كل أهل مذهب لهم جانب من الكعبة.

وذكر بدر الدين الحلبي، المتوفى سنة 1362 للهجرة، في كتابه التعليم والإرشاد، أنه كان في الجامع الأزهر إمامان، إمام للمالكية، وإمام للشافعية، ويظهر انه لم يكن هناك إمام للحنابلة وإمام للأحناف، لضعف هذه الفرق، وقلة عدد أتباعها، أو لعدمها في تلك الحقبة.

ولم يكن الشافعي يجيز لأتباعه الصلاة خلف الإمام المالكي، ولم يكن المالكي، يجيز لأتباعه الصلاة خلف الإمام الشافعي.

وكانا يقيمان الصلاة في نفس الوقت، لأن كلاهما لا يريد أن يكون هو التالي، وكان يحصل بذلك من التشويش على المصلين، بسبب اختلاط أصوات الإمامين والمبلغين عنهما، ما يفسد على الناس الطمأنينة في الصلاة.

وذكر الشيخ محمد سلطان الخجندي المعصومي، المتوفى سنة 1381 للهجرة، في ترجمته لحاله، أنه في زمنه كان للحرم المكي أربعة أئمة أيضاً، على عدد المذاهب الأربعة، كل أهل مذهب لهم جانب من الكعبة.

وهذا يعني أن هذا الحال، استمر من زمن فساد الدنيا والدين الأيوبي، إلى زمن الشيخ المعصومي، أي أكثر من ألف سنة.

مع العلم أن جميع هؤلاء المتمذهبون، على عقيدة الأشاعرة، أي: أنهم جميعاً على عقيدة فاسدة واحدة، ومع اتفاقهم على معتقدهم الفاسد، إلا أن ذلك، لم يمنعهم من الاختلاف والتمزق والتفرق بسبب اختلاف المذاهب الفقهيّة!

ولم يجمعهم خلف إمام واحد، سوى الملك عبدالعزيز آل سعود، الوهابيّ، طبعا أهل الأهواء والبدع والزيغ والضلال، يحاولون اتهام الوهابية بأنهم "سبب فرقة المسلمين" نكاية في الوهابية ومغالطة للحقيقة، لينفروا الناس عن الحق، ويجعلونهم يقبلون على باطلهم، فعندما فتح الملك عبدالعزيز الحجاز، وأدخلها تحت حكمه، أمر بأن تقام الصلاة لكل إمام من أصحاب المذاهب الأربعة، ويصلي الجميع خلفه، ثم أقصاهم فيما بعد واستبدلهم بأئمة من المسلمين الموحدين.

والمذهبيّة والتمذهب، هي التي تدفع الشخص إلى تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله تعالى، ذلك أن المتمذهب، سوف يتمسك بقول مشايخ مذهبه، وإن خالف قولهم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، بدعوى أن مشايخ مذهبه أعلم منه بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينظر في أقوال غيره من أهل المذاهب الأخرى، لاعتقاده بخطئهم وضلالهم، أو حباً لمشايخه وعدم رغبته في مخالفتهم، وهذا أشهر من أن ينبّه عليه، فكيف يقال بعد هذا، أن المذهبية والتمذهب تحفظ العبد من أن يخالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم!!

إذا الذي يدعو إلى المذهبيّة والتمذهب، هو أحد شخصين:

إما شخص جاهل وجمع مع الجهل حمقاً وغباوة، فهو يردد ما يقال له ترديد الببغاء، دون عقل أو بصيرة.

وإما شخص كذاب محتال، يدعو إلى المذهبيّة والتمذهب، مع علمه بمفاسد ذلك، ولكن إما لأنه ينتفع من ذلك مادياً، أو أنه يعجبه أن يفسد الناس ويفترقوا، ويخالفوا كتاب ربهم وسنة نبيه، لما جُبِلت عليه نفسه الشيطانية من حب الفساد والإفساد.

والمسلمون ليس لهم إلا مذهب واحد، هو مذهب محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي، ليس للمسلمين مذهب غيره.

ومن العجب العجاب، أنك تجد كثير ممن يتحلى بحلية العلماء أو بحلية طلّاب العلم، يسرد عليك الكثير من الآيات والأحاديث في وجوب التمسك بهدي الكتاب والسنة، ثم تجده في نفس الوقت يدعوك إلى المذهبية والتمذهب، ذلك لأنه لا يعقل ما يقول عندما أمر الناس بالتمسك بالكتاب والسنة، إنما يسمع الناس يتكلمون عن أمر فتكلم فيه، وهو لا يعيه، والعمى عمى البصيرة.

فلا تغتروا بدعاوى المبطلين، ولا بزخارف المبدلين، ولا ببهرجة أعداء الكتاب والسنّة.

وأريد هنا أن أعلق على رسالة منسوبة للشيخ ابن رجب الحنبلي، بعنوان: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة. 

وأنا أتقصد عادة الرد على كبار مشايخ السلفية، لأني أراهم هم أقر بالناس إلى الحق، وهم حملة الدين حقيقة، فإذا اخطؤوا كان خطؤهم كمسمار دُق في نعش السلفية، فيجب التنبيه على هذه الأخطاء حتى لا يُتابعوا عليها.

حيث دعا في كتابه المذكور إلى التمسك بأحد المذاهب الأربعة، بل زعم، أن حصر الناس في التمذهب على أصحاب المذاهب الأربعة، هو كحصر عثمان بن عفان للناس على قراءة واحدة. 

والأدهى من ذلك، أنه يصف المعترض على قوله، بالحمق، وما جرّه إلى إساءة الأدب مع مخالفه، إلّا إرادة التظاهر ببطلان قوله وشناعته، ومحاولة ترويع القارئ، واضطراره إلى قبول قوله حتى لا يقع عليه وصف الحمق، الذي أنعم به ابن رجب على مخالفيه!

مع أن الحقيقة أن قول ابن رجب هو الباطل وهو الشنيع، لمخالفته الأدلة الشرعية، القاضية باتباع كتاب الله وسنة نبيه.

وكيف يشبه دعوته للناس على أن يفترقوا على أربعة مذاهب، بدعوة أمير المؤمنين عثمان بن عفان للناس على أن يقرؤوا بحرف واحد. 

ألا يفرق ابن رجب بين الأربعة والواحد؟!

لو قال ابن رجب، يجب أن ندعو الناس إلى مذهب واحد وهو مذهب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، القائم على الأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالأخذ بما صح عن الصحابة رضوان الله عليهم، ثم بالأخذ بما صحّ عن التابعين وتابعي التابعين رحمهم الله، وما لم يرد فيه شيء عن هؤلاء السلف من المسائل الحادثة، اجتهد كل عالم رأيه، وقاس قوله هذا على ما فعله عثمان من جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد، لقلنا هذا قياس صحيح، ودعوة صحيحة.

أما أن يقيس دعوته للناس إلى أربعة مذاهب متناحرة، بدعوة أمير المؤمنين عثمان بن عفان للناس إلى قراءة واحدة، فهذا بعيد كل البعد عن الصواب.

مع أن أكثر المذاهب تتبدل أقوالهم وتتغيّر اجتهاداتهم مع الزمان، فالحنابلة نشأ فيهم مجتهدون خالفوا أحمد في كثير من المسائل، وكذا الشافعية والمالكية والحنفية.

فبأي قول يلتزم الحنبلي وبأي رأي يأخذ، بقول لمتقدمين من الحنابلة أم بقول المتأخرين؟ وكذا نقول عن الشافعية والمالكية والحنفية.

ثم يقول ابن رجب: أنه يعني بدعوته إلى التمسك بأحد المذاهب الأربعة، من لم يكن له علم وبصر بالحديث.

وهذا بحد ذاته خطأ، لأن الواجب على العلماء ابتداء أن لا يفترقوا على أحد المذاهب الأربعة، بل يلتزمون مذهبا واحدا هو مذهب محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومذهب السلف الصالح الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وما كان من المسائل الحادثة، يجتهد كل عالم رأيه ولا يأطر أحداً على رأي أحد.

فإذا التزموا بالمذهب الواحد، لم يكن لغيرهم أن يلتزم إلا ما التزموه.

والعجيب، أنه يجتهد في تلميع المذاهب الأربعة وتحسينها، بادعاءه أن الله تعالى قيض الأئمة الأربعة، لحفظ دين الله تعالى، فأي حفظ هذا الذي يجر أتباع هذه المذاهب إلى مخالفة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فضلا عن اختلافهم في الكثير من أراءهم، ثم يدفعهم ذلك إلى التناحر والتباغض والإقتتال.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.