وبصيغة أخرى: كيف أميّز في دعائي، بين ما يجوز صرفه لغير الله عز وجل، وما لا يجوز صرفه إلّا لله عز وجل.
سبق وأن اشرت إلى هذه المسألة سابقاً، ولكني بودي هنا أن أعيدها بمزيد من التوضيح، من باب التذكير.
والجواب على ذلك: أن تنظر في عامة الناس، فما لا يقدر عليه عامة الناس، فإن الملائكة والأنبياء والأولياء والمشايخ والجن لا يقدرون عليه، فضلاً عن الأشجار والأحجار.
ويوضّح ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنكي من الله شيئا، سليني من مالي ما شئتِ".
فنجد النبي صلى الله عليه وسلم هنا، يقول لابنته فاطمة: أنا لا أقدر إلا على ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، وأما غير ذلك فلا أستطيعه، حتى أنه لا يستطيع أن يدخله جنة ولا ينجيها من نار، ولا أن يهب لها رزقاً، إلا مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وبعد إذنه سبحانه.
مع الأخذ في الاعتبار، الفارق بين هذه المخلوقات في قوتها وقدرتها، فهذه المخلوقات بعضها أكمل من بعض، ولكن جميعها تبقى قوتها وقدرتها قوة وقدرة مخلوق، تكون في أشياء معيّنة ومحدودة.
فعندما تستغيث ببشر لينصرك على عدوّك، تريد منه أن يأتيك بنفسه، أو يبعث رجالا إليك نيابة عنه، أو على الأقل يعطيك سلاحاً، أو مالاً لتشتري به سلاحاً، ولا يمكن أن يكون مرادك من الاستغاثة به أن ينزل الخوف في قلوب عدوك، أو يقوي قلبك وعزمك حتى يجعله أقوى من قلب وعزم عدوّك، أو يبع ملائكة لينصروك، حتى يفرّ عدوك منك. لأن هذه الأمور لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فإن زعمت أن المخلوق قادر على مثل ذلك، بدعوى أن له مكانة ووجاهة عند الله، فقد جعلته لله ندّاً في قوته وقدرته سبحانه، وهذا هو الشرك الأكبر.
والطبيب، يذهب إليه الناس ليجدوا الشفاء عنده من مرضهم، ولكن الطبيب حتى يستطيع شفائك من مرضك، يجب عليه أولاً أن يفحص جسدك، وقد يهتدي لموضع العِلة وسببها وقد لا يهتدي، ثم يبحث لك عن علاج، وقد يهتدي لعلاج علّتك وقد لا يهتدي، ثم هو إذا عرف علتك، لا يستطيع "خلق" دواء علّتك، وإنما يبحث عن الدواء، بين ما خلق الله تعالى من أعشاب أو ثمار، فإن لم يجد، أو لم يعرف أيّ الأعشاب أو الأدوية هو الوسيلة لشفاء مرضك، فسوف يكون عاجزاً تماماً عن شفائك، ثم أنت لا تعلم هل هذا الطبيب، طبيب متقن لعمله، خبير به أم لا.
ولكن من الذي عنده القدرة على أن يهديك إلى الطبيب الحاذق، ثم يوفّقه لمعرفة علّتك، ثم يوفقه لإيجاد الدواء الصحيح لهذه العِلّة؟
ومن خلق لك الدواء ابتداء على غير مثال سابق؟
الجواب: هو الله وحده لا شريك له.
أحد مشركي الصوفية قال لي: ألسنا نسأل من الطبيب الشفاء؟
قلت: بلا.
فقال: فهذا عندكم شرك. وإذا جاز أن اسأل من الطبيب الشفاء، جاز أن أسأل من الأنبياء والأولياء الغوث والنصر والرزق ونحو ذلك.
فقلت له: حسنا، إذا أصبت بمرض، فلا تدعو الطبيب إلى منزلك، ولا تذهب إليه في المستشفى، بل استقبل جهة المستشفى وأنت على فراشك، ووجهك بطون يديك إلى جهة المستشفى، ثم قال: يا دكتور اشفني من مرضي!
وعندئذ، انتظر من الدكتور أن يسمعك أو يراك أو يعلم بحالك، ويعلم سبب مرضك دون كشف، ويعلم بالدواء المناسب، ثم يعالجك وهو في مكانه من المستشفى!
وهذا ما لا يكون.
فمن يقول بهذا القول لا يستطيع التفرقة بين قدرة الخالق وقدرة المخلوق، لذلك يخلط بينها بمثل هذا الخلط الخاطئ.
فقدرة الطبيب محدودة، وحتى يشفيك من مرضك، يحتاج هو نفسه إلى بذل الأسباب التي وضعها الله له، مع توفيق الله تعالى، لمعرفة علّة المريض، وأيضاً المريض نفسه، يحتاج إلى بذل الأسباب مع توفيق الله له ليشفى من مرضه.
أما الوحيد الذي يملك أن يهديك ويهدي الطبيب إلى الطريق الذي من خلاله تصل إلى الشفاء من مرضك فهو الله وحده.
وهو وحده، الذي خلق المرض وخلق دواءه، وهو الذي علّم الطبيب، ما لم يكن يعلم، وهو الوحيد القادر على أن يشفيك من مرضك بلا أسباب.
ومن يعتقد في الطبيب هذا الاعتقاد، فقد جعل من الطبيب نداً لله تعالى، ووقع في الشرك الأكبر.
لذلك أنت إذا مرضت، تبدأ بسؤال الله تعالى الشفاء. ثم تتسبب بالأسباب التي وضعها الله تعالى لعباده ليتسببوا بها، طاعة له سبحانه، لأنه هو من أمرنا بأن نأخذ بالأسباب، وإلّا لأي شيء سبّب الأسباب، فالله تعالى لا يريد من مخلوقاته أن تكون اتكاليّة، فكما أنك لتأكل يجب عليك أن تبذل السبب لتنال به الطعام، وهو أن تعمل، فكذلك لتشفى من مرضك عليك أن تبذل السبب الذي يعينك على الشفاء من مرضك.
وفي جميع جوانب حياتك لتصل إلى مطلوبك، تبدأ بسؤال الله تعالى، وتبذل الأسباب التي توصلك إلى هذا المطلوب.
والله يستجيب لك إن شاء، ويعينك إلى الوصول إلى مطلوبك.
ولذلك، فإن العلماء الذين اشترطوا في دعاء المخلوق ليكون مباحاً، أن يكون المخلوق حيا لا ميتا، وحاضرا لا غائبا، وأن يكون دعاءه فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، كانوا مصيبين في ذلك، وقد دلّ هذا على أن الله تعالى رزقهم الفهم العميق لهذه المسألة.
فالميّت والغائب، لا يمكن أن يسمعك إذا ناديته، ولا أن يراك، ولن يعلم عن حالك شيئاً، ففي جميع الأحوال لا يجوز دعاء الميّت والغائب، سواء فيما يستطيعه المخلوق، أو فيما لا يستطيعه إلا الله تعالى، لأنك بذلك جعلت المخلوق ندّاً لله تعالى في كمال سمعه وبصره وعلمه وقوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.
كما أن المخلوق لن يستطيع أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، لذلك لا يجوز دعاء المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، حتى لو كان حيّاً وحاضراً، لأنك لو فعلت ذلك، فقد جعلته ندّاً لله تعالى في قوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.
وكل هذه المسائل مدركة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، وهو أن الميّت والغائب لا يمكنهما أن يسمعاك أو يبصراك أو يعلمان عن حالك شيئاً، كما يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أن المخلوقون لا يمكن أن يغيثوك أو يعينوك أو يعيذوك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، فكيف تدعوهم في ذلك!
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.