ذكرت سابقاً، أن القرآن الكريم نصٌّ قطعي الثبوت، وأن السُنَّة نصٌ ظنّيّ الثبوت، ولا يبلغ درجة قطعي الثبوت، إلا بعدة شروط.
وأوّل هذه الشروط، هو أن لا يتعارض مع القرآن معارضةً لا يمكننا معه الجمع بينها، فعندئذٍ، يُقدَّم القُرآن، ويُطرح الحديث.
وذلك أن الله تبارك وتعالى، لم يكل حفظ هذا الكتاب العزيز لأحدٍ من خلقه، بل تكفَّل ربُّنا عز وجل بحفظه بنفسه.
بينما أوكل حفظ السُنَّة لعباده، كُلٌّ بحسبه.
ولعلّ الله تبارك وتعالى، إنما أراد بذلك، أن يتدارس الناس العِلْمَ بينهم، ويتفاضلون فيه، ويقع التمايز بينهم في ذلك.
وجعل سبحانه وتعالى على ذلك من الأجر، ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ.
بل لو كان الحديث مسلسلاً بالثقات، وهو خبر آحاد، فإننا لا نستطيع أن نعطيه صفة قطعي الثبوت، من الدرجة الأولى، ما لم يكن متواتراً.
والمتواتر عندي، هو الحديث إذا روي عن أربعة من الرواة فأكثر، في جميع طبقات سند الحديث.
بل نعطيه صفة قطعي الثبوت من الدرجة الثانية، لأننا لا نأمن أن يكون هذا الواحد، وإن كان ثقة، قد وهم أو أخطأ في نقل الخبر.
لأنه مهما كان الإنسان ثقة وثبتاً، فهو بشر، والبشر مهما كان ثقة وثبتاً لا يؤمن عليه الوقوع في الخطأ والوهم والنسيان.
وهذا شيء علمته بنفسي من كتب الحديث.
ولا أعلم - حسب ما أُتيت من العِلم - أن هناك حديثاً متواتراً يخالف نصّه آية من كتاب الله تعالى، مخالفة لا يمكننا معه الجمع بينهما.
نعم، قد نجد حديثاً متواتراً، فيه حكم زائد على ما ورد في القرآن، ولكن لا أعلم حديثاً متواتراً يخالف نصّه نصّ القرآن مخالفة لا يمكننا معه الجمع بينهما.
ولذلك نقول، بأن القرآن يَعْلُو ولا يُعلا عليه.
وأنه الحَكَم على الأخبار، من حيث الصحة والبُطلان.
فإذا خالف حديث، وإن كان مسلسلاً بالثُقات، ولو فرضنا أنه متواتر، آية من كتاب الله تعالى، لكان في مخالفة هذا الحديث لنصّ القرآن، ما يدلّ على بطلانه.
فإذا علمنا ذلك، علمنا بطلان ما ذهب إليه بعض المنتسبين لمدرسة أهل الحديث، من ادعائهم بأن السُنَّة إذا صحّ إسنادها، تكون قاضية على القرآن!
فقد روى الدارمي في سننه، بسنده، عن يحيى بن أبي كثير، أنه قال: "السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة" اهـ
ويحيى بن أبي كثير من صغار التابعين، وقوله فيه تجاوز واضح، وجرأة على كتاب الله عز وجل.
وهذا من أشنع ما قرأت، إذا قدّمت هذه الطائفة الضالة، الحديث، الذي أوكل الله تعالى على عباده حفظه، على القرآن الكريم، الذي لم يكل الله سبحانه حفظه إلّا لنفسه، فأين عقول هؤلاء القوم!
وأظن والعِلم عند الله وحده، أنه ما جرّ هؤلاء القوم، إلى القول بهذا القول الشنيع، إلا الإمعان والمبالغة في الرد ومخالفة أهل الكلام وأهل الرأي.
فأهل الكلام وأهل الرأي، بالغوا في ردّ السُنَّة، حتى قدّموا عقولهم القاصرة وآرائهم الظنّيَّة على السُنَّة.
فجاء هؤلاء، فبالغوا في قبول السُنّة، حتّى قدموها على القرآن الكريم.
والمذهب الحق، وسط بين مذاهب هذه الفرق الضالة.
فالسُنَّة الصحيحة حجَّة، وهي مقدَّمة على العقل فيما لا يمكن للعقل إدراكه، ومقدمة على أراء الرجال، ولكنها لا تُقدم على القرآن.
وقد احتج من قال بهذه المقالة الآثمة، بما رواه الترمذي في جامعه عن أبي رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمر مما أمَرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
وقال عنه: حديث حسن.
وروى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله". اهـ
وقال عنه: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
ورواه الدارمي في سننه، عن المقدام، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خيبر الحمار وغيره. ثم قال: "ليوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال، استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله، فهو مثل ما حرم الله تعالى".
وقول الراوي: أن النبي قال هذا الحديث عُقيب تحريمه للحوم الحُمُر الأهلية وغيرها، فليس مراده بذلك، أنه قال هذا الحديث، عُقيبها مباشرةً، لأن حديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية ورد بأسانيد صحاح، وليست فيه هذه العبارة.
كما أن الترمذي روى هذا الحديث، ولم يربطه بنهي النبي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فدل ذلك على أن ذكر تحريم النبي لحوم الحمر الأهلية وغيرها، إنما هو توضيح من الراوي.
خصوصاً وأن الصحابة أنفسهم، لا يعلمون هل نهي النبي عن أكل الحُمُر الأهلية يوم خيبر، لنجاسة لحومها أم لأجل الظهر.
بمعنى أنهم لا يعلمون، هل النهي عن أكل الحمر الأهلية على التأبيد أم مؤقتاً.
وقصار ما تدلّ عليه هذه الأحاديث، أن النبي صلى الله عليه وسلّم، بيّن ما أجمل حكمه في القرآن، وسَنّ أحكاماً زائدة على ما ورد في القرآن، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلّم من أن يعترض معترضٌ على ذلك، فيترك ما بيَّنه أو ينكر ما سَنَّه.
وقد حرّم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وحرم لحوم الحمر الأهلية، وحرَّم نكاح المتعة، إن صح أن تحريمه لأكل لحوم الحُمُر الأهلية وتحريمه لنكاح المتعة، تحريم على التأبيد، وهذا لم يثبت.
وهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحلّ الله، ولكن النبي ما حرَّم ذلك، إلّا بإذنٍ من الله تعالى في ذلك، فالأمر كلّه لله تعالى، هذا كُلّ ما في الأمر.
وليست مخالفة النبي فيما حرَّم، كمخالفة الله تعالى في ذلك، مخالفة الله أعظم وأكبر، وأشدّ عقوبة وألماً، ولكنه مثل ما حرم الله تعالى في استيجاب العقوبة على المخالف.
وأما الضالون، فذهبوا أبعد من ذلك، فبناء على هذا الحديث، زعموا أن السُنَّة قاضية على القرآن! ثم بناء على هذا الأصل الذي أصّلوه، زعموا أن السُنَّة، إذا صحّ إسنادها، وكانت مخالفة لحُكمٍ ورد في القرآن الكريم، فإنها عندئذ تكون ناسخة للقرآن، نعوذ بالله من الضلال!!
والله أعلم وأحكم.