العمل بما عليه العمل
كثيرا ما نسمع بالمنهج القائل: بالعمل بما عليه عمل العلماء!
فهل هذا المنهج صحيح، أم خاطئ، أم صحيح إذا طبّق في حالات، وخاطئ إذا طبّق في حالات؟
يحتج الآخذون بهذا المنهج، بمنهج الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المتوفى سنة 179 للهجرة.
حيث كان الإمام مالك رحمه الله دائما ما يقول عندما يروي حديثاً يراه منسوخاً: ليس العمل على هذا، أو، ليس على هذا العمل.
ودائما ما كان يصدر الموطأ بعبار: باب العمل في كذا وكذا.
وقد صار هذا المنهج وسيلة وحجة لأهل الأهواء والبدع والضلالات في إسقاط سنّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واستبدالها ببدعهم وضلالاتهم نعوذ بالله من حالهم.
والسؤال هنا: من هم الذين يحتج بهم الإمام مالك بن أنس رحمه الله في رد الأحاديث التي ردها، وإبطال العمل بها؟
والجواب: هم من أدركهم من تابعي التابعين.
وتابعو التابعين، تلاميذ من؟
والجواب: تلاميذ التابعين.
والتابعون تلاميذ من؟
والجواب: تلاميذ الصحابة.
والصحابة تلاميذ من؟
والجواب: تلاميذ النبي (ص)
إذا العهد بين مالك وبين النبي (ص) قريب.
لم تكثر الأهواء، ولم ينجم أهل البدع، ولا عظمت البليّة بهم.
فمالك ينقل بالسند الصحيح المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسمي رجاله، فعمل جماهير التابعين وتابعي التابعين، دليل على صحة إسناد هذا الخبر أو ذاك، إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يُظن بالإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، أنه يرد حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس، ولكن الإمام مالك، كان يعلم بأن في الحديث ناسخاً ومنسوخاً، فكان يرى، أنه إذا عمل أهل المدينة عملاً يخالف حديثاً من الأحاديث، أن هذا الحديث منسوخ، وإن لم يبلغه نصٌّ بالنسخ في ذلك.
فالعهد بالنبي صلى الله عليه وسلم قريب، ومن ينقل عنهم إما تلاميذ للصحابة أو تلاميذٌ لتلاميذهم.
فكيف يقاس بهم غيرهم ممن جاء بعدهم، ويُحتج بعمله، فيما خالف السُنّة.
فأين هذا مما صنعه الحاكم النيسابوري، لمتوفى سنة 405 للهجرة، عندما روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها، ويصحّحه ثم يقول: "وليس العمل على هذا"!
من هم القوم الذين يحتج بعملهم الحاكم النيسابوري، ويعارض بعملهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟!
أهم صحابة أم تابعون أم تابعو تابعين أم من أهل المدينة!
إنما يحتج بعمل الخلوف المخالفين من أهل الأهواء والبدع ببلده في المشرق، فسبحان الله العظيم!
وبهذا ومثله، ضلت الأمم من قبلنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
والأعجب من ذلك، أن ابن عبدالهادي نقل تعليق الحاكم النيسابوري، في كتابه المُحرَّر، متابعاً له، مع أن كلاهما منسوب للسنة ومنهج السلف!
فالإمام مالك إنما كان يحتج بعمل أهل المدينة لأنهم حديثو عهد بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم - حسب رأي مالك - أعلم بناسخ الأحكام من منسوخها، وهم أعلم بما اتفق عليه الصحابة بما اختلفوا فيه، فلا يقاس بهم غيرهم ممن جاء بعدهم، ولا يحتج بعمله فيما خالف فيه السنة.
حسناً.
ما هو الأفضل.
الأخذ بعمل أهل المدينة، أم الأخذ بما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلَّم؟
والجواب على ذلك:
أن كلا المنهجين، له مزاياه وعيوبه.
فمذهب أهل المدينة، قائم على من تبقّى بالمدينة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وقد عُلِم، أن من كثيراً من الصحابة تفرّقوا في البلاد، في العراق والشام ومصر.
والراجح أن مع كُلّ واحدٍ منهم من العِلم، ما لم يبلغ الآخر.
فعمل التابعين وتابعي التابعين، من أهل المدينة، إنما هو قائم على علم من تبقى من الصحابة بالمدينة، ولا يؤمن أنه قد فاتهم من العِلم، ما بلغ الصحابة الذين تركوا المدينة.
وأما مذهب من أخذ بالحديث، وإن لم يعمل به أهل المدينة، فإنه لا يؤمن أيضاً بأن الصحابي الذي خرج من المدينة، معه حديث، قد بلغ من تبقّى بالمدينة النبوية حديثٌ عن النبي ناسخٌ لهذا الحديث.
ثم إنه لا يؤمن بأن من الصحابة الذين بقوا بالمدينة، من كان يُفتي برأيه، في مسألة لم يبلغه فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون عند بعض الصحابة الذين خرجوا من المدينة، حديث عن النبي في ذلك، يخالف ما ورد فيه ما رآه ذاك الصحابي.
والعكس، فقد يكون من الصحابة الذين خرجوا من المدينة، من كان يُفتي برأيه، في مسألة لم يبلغه فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون عند بعض الصحابة الذين بقوا بالمدينة، حديث عن النبي في ذلك، يخالف ما ورد فيه ما رآه ذاك الصحابي.
لذلك أنا اقول "والعلم عند الله وحده" : أن من أخذ بمذهب أهل المدينة، فهو على خيرٍ إن شاء الله. ومن قال لا أأخذ إلّا بالحديث الصحيح، فهو على خيرٍ إن شاء الله تعالى.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.