الأربعاء، 17 يناير 2024

المسائل التي يعذر فيها المخالف

إن كل مسألة لا تدرك إلا بالخبر عن الله وعن رسوله، فالمخالف فيها معذور، حتى يبلغه الخبر بذلك.

وبما أن علمها لا يدرك إلّا بالخبر، فبتالي يعذر المخالف فيها لو شبّه عليه فيها، أو نقلت له على غير وجهها الصحيح، أو لبّس عليه فيها بتحريف معاني الأدلة الشرعية، أو نقل له الخبر ممن لا يثق به.

وفي جميع هذه الحالات الأربع، يبقى الأمر معلّقاً بنيّة الشخص، وحرصه على اتباع الحق، فكل ما كانت نيّته أقوى وحرصه أشد، كان عذره أبلغ.

فإذا كان العبد يبحث عن الحق وينوي اتباعه وإن خالف هواه، وحريص على ذلك، ولكن أدركه الموت قبل أن يصل إليه، فهذا بإذن الله تعالى معذور، وغير مؤاخذ.

وأما من أعرض، ولم يأبه، كمن أكتفى أو آثر تقليد الآباء والمشايخ والكبراء، فهو محاسب على تقصيره.

وأوّل هذه المسائل: مسألة صفات الله تعالى، لأنك لا يمكن أن تعرف صفة الشيء حتى يبلغك الخبر بصفته.

هذا في المخلوقات التي تعيش معك على الأرض فكيف بالله تعالى، الذي لا يماثله شيء!

ولا استثني من الصفات شيء، إلا ما كان من علوّ الله تعالى، وكل صفة لها تعلّق بربوبية الله تعالى وألوهيته.

وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والخلق، والمُلك، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.

فثبات هذه الصفات معلوم بالفطرة، فمن أنكرها لم يقر بربوبية الله وألوهيته، وهذا هو الكفر الأكبر.

وأما باقي صفات الله تعالى، فمن جهلها، ولم تبلغه الحجة في ذلك، فهو معذور، وهذا أمر لا يحتاج لمثله دليل.

العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الدليل عليه.

وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه، في عقيدته المشهورة: "لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة أن القرآن نزل به وصح عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر".

ثم عدد من تلك الصفات: السميع والبصير واليدين واليمين والوجه والقدم والضحك والهبوط إلى السماء الدنيا والأصابع.

وكذلك يعذر من علِم صفات الله تعالى، ولكن جهل كمالها الذي يستحقه الله تعالى، لأن الإنسان لعقله حدود لا يتجاوزها، فهو يبني أحكامه في نطاق قدراته العقلية، وأما ما تجاوز نطاق قدراته العقلية، فلا يمكن أن يعلمه إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله.

والدليل الشرعي على عذر من جهل كمال الصفة.

ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم، قال: كلمة: يعني - أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر - أو لم يبتئز - عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال: فاسحكوني -، فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها، فقال: نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، - أو فرق منك -، قال: فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها، فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: أذروني في البحر، أو كما حدث.

وقال ابن عبدالبر في التمهيد: "رُوي من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: "قال رجلٌ لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد".

وقد اجتهد بعضهم في تحريف معنى هذا الحديث فقال: بأن معنى قوله: "إن يقدر الله عليه" أي: يضيّق عليه، وقال بعضهم، إنما قالها في حالة ذهول وشدّة خوف، يريدون بذلك أن ينفو أن يكون هذا الحديث حجة في إعذار من جهل كمال صفة الله تعالى، لانهم يرون كفر من جهل كمال صفة الله تعالى، وإن لم تقم عليه حجة، أي أنها عندهم من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

وتأويلهم هذا باطل، لأن الحديث يفسّر قول الرجل: "إن يقدر الله عليه" بأن معناها أنه يريد أن يفوت الله تعالى، بمعنى أنه ظنّ أن قدرة الله تعالى كقدرة خلق الله، فهو مثّل قدرة الله تعالى بقدرة خلقه، جهلاً منه، نجد ذلك بيّناً وواضحاً في طلب الرجل من ابناءه أن يحرقوه ويذروه في الهواء، حتى لا يستطيع الله جلّ وعزّ أن يقبض عليه ويحاسبه على معصيته.

ولا يعذر في ذلك، إلّا من جهل كمال الصفات التي يستحقها الله تعالى، مع إقراره بفارق الكمال بين صفات الله وصفات خلقه، وأما إن مثَّل صفات الله تعالى بصفات خلقه في الكمال والنقص، من جميع الوجوه، فهذا ممن جعل لله تبارك وتعالى مثلاء وأكفاء وأنداد، وبالتالي يعتبر من المشركين.

وثانيها: جميع العبادات، لأنه لا يمكن معرفة العبادات التي يريد الله منّا أن نتعبّده بها، وكيفية القيام بها، إلّا بالخبر عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: باقي الشرائع، وهي الحدود والأقضية والمواريث، ونحو ذلك، فهذه المسائل من المسائل التي يعذر فيها المخالف بعدم بلوغ الحجة.

وباختصار، فإن التفرقة بين ما يعذر فيه المخالف وما لا يعذر، مدركٌ بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فالناس بطبيعتها، تستطيع التمييز بين هذا وذاك.