الأربعاء، 17 يناير 2024

توحيد الصفات

يعرف هذا القسم من التوحيد عند الاصطلاحيين بتوحيد الأسماء والصفات.

وهذه التسمية لعلها غير دقيقة.

لان معنى توحيد الأسماء، أي: أن نوحّد الله سبحانه وتعالى بإطلاق هذه الأسماء عليه.

فالله تعالى سمّى نفسه: العليّ. وبناءً على ذلك لا يجوز أن نتسمّى بـ عليّ، وقس على ذلك باقي الأسماء.

وهذا باطل شرعاً، فإن الله تعالى أباح لنا أن نتسمّى بأسماءه، شرط أن لا يتظمن ذلك، أن نعتقد أن ما تعنيه هذه الأسماء من معاني، وتحتويه من صفات، مماثلة ومكافئة لكمال صفات الله تعالى، فعندما نصف الله تعالى بأنه العليّ فإننا نعني بذلك العلوّ المطلق، ولكن عندما نسمي رجلاً عليّاً، فإننا نعني بذلك العلو المقيّد، أي: الكمال البشري في صفة العلوّ.

مع أننا في كثير من الأحيان، نطلق أسماء ذات معاني قد لا تنطبق على صفة المتسمّي بها.

وهذا في جميع الأسماء بلا استثناء.

حتى في خالق وخلّاق.

لأن معنى خالق هو مبدع أو صانع، ومعنى خلّاق، اي كثير الإبداع والصنع، ولذلك من ناحية المعنى هذا الاسم لا حرج في التسمية به، ولكن مع الكراهة.

لماذا؟

لأن هذال الاسم، بهذا اللفظ، صار دلالة على كمال القدرة في الخلق.

فالإنسان  يخلق، ولكنه لا يستطيع أن يخلق كخلق الله تعالى.

الإنسان يخلق آلات ومساكن، ولكنه لا يستطيع أن يخلق شجرة أو حيوان أو نحو ذلك، كما أن الإنسان لا يستطيع أن يخلق المادة الأولية الأساسية لخلق الآلات والمساكن، وإنما يستعين بما خلقه الله تعالى من مواد ليخلق هو من خلالها ما يحتاجه.

وأما الأسماء التفخيمية، التي تدعو إلى الكِبر والغرور مثل جبّار وعظيم ونحو ذلك، فهذه يكره التسمي بها لما فيها من الكِبر والتعاظم، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى. ولكن لو تسمى بها الإنسان، وكان خالياً من هذه الصفات، أو متعاظماً على من يستحق أن يُتعاظم عليه، من المتكبّرين والمتعجرفين والبغاة، فهذا لا بأس به.

إذا ما التسمية الأصح لهذا القسم من التوحيد؟

الجواب: هو توحيد الصفات.

وقولنا: توحيد الصفات، لا نعني به، أنه لا يتّصف بهذه الصفات ولا ينبغي له أن يتّصف بها إلا الله عز وجل.

بل مرادنا من ذلك، أن نوحّد الله تعالى ونفرده بكمال هذه الصفات التي اتّصف بها، الكمال المطلق.

فإن هناك كمال مطلق وكمال مقيّد.

الكمال المقيّد، هو الكمال البشري، الذي لا يستطيع البشر أن يزدادوا من الكمال فيه.

والكمال المطلق، هو الكمال الذي لا يليق إلا بالله تعالى، والذي لا يستطيع كائنٌ من كان أن يبلغ اليسير منه.

والدليل على تفرّد الله تعالى بكمال الصفات الكمال المطلق، هو قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئِل عن الشرك فقال: "أن تجعل لله ندّاً" .. الحديث.

والعرب تقول: "فلان ليس كمثله أحد. وفلان لا كفء له. يريدون بذلك أنه متفرّد بكمال الصفات التي كمل فيها الكمال البشري. 

ولا يزال العرب في الحجاز ونجد يقولون: "فلان ما مثله أحد. و "ما" هنا بمعنى ليس.

وهم إنما يقارنون بين كمال صفة هذا الشخص الذي يثنون عليه، وبين كمال هذه الصفة في غيره من الأشخاص. الكمال البشري، كما أنهم يقارنون بين صفة هذا الشخص، والمحيط الذي هو فيه.

أما الله سبحانه وتعالى، فهو يفاضل بين صفاته وبين صفات جميع مخلوقاته وفي كل مكان وزمان، ففي كل زمان ومكان، الله تعالى هو المتفرّد بكمال الصفات الكمال المطلق، الذي مهما اجتهد البشر والجن والملائكة أن يبلغوا هذا الكمال، فلمن يبلوغوا إلا اليسير منه، الذي أجاز الله تعالى أن يبلغوه، وهو الكمال المقيّد.

وصفات الله تبارك وتعالى قسمها أهل العلم إلى أقسام، منهم من قسمها إلى قسمين: ذاتية وفعلية، ومنهم من قسمها إلى ثلاثة اقسام، وهي: ذاتية ونفسيه وفعلية.

والحقيقة أن النفسية والفعلية هي صفات ذاتية.

ولكن يظهر لي أن هناك تقسيم أشمل وأكمل من هذا التقسيم، وهو:

صفات نفسية، وهي: كالسمع والبصر والكلام وحديث النفس، ونحو ذلك. وأيضاً الانفعالات النفسيّة كالرضى والغضب والتعجّب والفرح والعظمة والكِبر، ونحو ذلك.

وصفات شخصية، وهي: الصورة والوجه والعينان واليدان والأصابع والحقو والقدمان.

وصفات فعلية، وهي الإتيان والمجيء والنزول والصعود والاستواء على العرش والبسط والقبض والطي والخلق والكلام بصوت ونحو ذلك.

فأما أهل القرآن والسنة، فآمنوا بما بلغهم من صفات الله تعالى، وفهموا ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث على معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها.

وأما أهل الأهواء والبدع والزيغ والضلال والفرقة، من المعطلة، فإنهم استوردوا ديناً أخذوه عن ملاحدة فلاسفة الإغريق، فكذّبوا بما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه من الآيات والأحاديث، إيماناً منهم بأقوال فلاسفة الإغريق، مع أن فلاسفة الإغريق إنما يرضخون أقوالهم رضخاً، فهم إنما يظنون ظناً، وقد ورد النص الشرعي بتكذيب ظنونهم، ومع ذلك بقي المعطلة المنتسبون إلى الإسلام، متمسكون بهذه الأقوال، تعصّباً لأقوال مشايخهم الذين لقنوهم هذه البدع والضلالات! فالأمر لا يعدو كونه عصبيّة جاهليّة، دفعهم إليها الكِبْر.

وكل طائفة تثبت ما شاءت وتنفي ما شاءت من صفات الله تعالى، وكأن الله خاضع لأهوائهم وأرائهم ومخيّلاتهم، فهؤلاء ينفون جميع صفات الله، وهؤلاء يثبتون الصفات الذاتية وينفون الصفات الفعلية، وهؤلاء يثبتون سبع صفات وينفون غيرها، وهكذا تجدهم في أمر مريج، لأنهم لا يستندون في ذلك إلى وحي سماوي، بل لمخيلاتهم وأهوائهم، وكل يدعي أن الحجة له، وأن استنباطاته أقوى. 

ثم استماتوا هم وكبرائهم الذين لقنوهم التعطيل، والإلحاد في صفات الله تعالى لشرعنة أقوال أئمتهم فلاسفة الإغريق، فما تركوا حيلة لم يحتالوها في نصره أقوالهم.

فصنّفوا الآيات التي ورد فيها ذكر صفات الله تعالى، بأنها من الآيات المتشابهة، ومع أن الله قال: بأنه لا يعلم تأويلها إلا هو، إلا أنهم تأولوها. 

حتى المفوّضة منهم، ألزموا أيّ مفوّض بأن يعتقد بأن ظاهرها الذي تعرفه العرب من كلامها غير مراد، فقبل المفوضة كل تأويل، إلا التأويل الصحيح الذي تعرفه العرب من كلامها!

ثم حكموا بأن القرآن ليس هدى في معرفة الله وصفاته، وحتى يشرعنوا هذه المقولة الكفريّة، احتجوا بقوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" لم يجدوا سوى هذه الآية، فقدموها كحجة لهم على صحة قولهم الفاسد، وقالوا: أليس الله تعالى لا ينسى. فتقول: نعم. لأنك تجعل معنى النسيان، هو فقد ذكر الشيء، وحصره في هذا المعنى، فيقولون: هذه الآية تفيد أن الله ينسى، ومن اعتقد أن الله ينسى فهو كافر، لانه ينسب النقص لعلم الله تعالى، إذا ىيات الصفات من المتشابه ولا يمكن الاهتداء بها، بل قرروا بناء من هذا القول بأن ظاهر القرآن لا يدل إلا على الكفرن لأن من اعتقد أن الله ينسى بناء على هذه الآية، فقد كفر، فهذه الىية لا تدل إلا على الكفر، ثم سحبوا هذه التقريرات على سائر آيات الصفات، وزقاسوها بهذه الآية.

وهذه مجرّد حيلة منهم لشرعنة قولهم الذي لقنهم إيّاه إمامهم إبليس لعنه الله.

لأن النسيان في لغة العرب تعني: الترك. فمعنى الآية: تركوا الله فتركهم. 

وإنما سمّي فقد ذكرى الشيء: نسياناً، لأأن فاقد ذكرى الشيء، تاركٌ له. 

ولا يزال العرب في جزيرة العرب يقولون إذا تركوا الشيء وأهملوه: نسيناه. يكنون عن ذلك بشدّة الترك.

فحتى هذه الآية لم تسعفهم في شرعنة كفرهم وضلالاتهم، ولا تنطلي حجتهم هذه إلا على الجهلة والحمقى والمغفلين.

مع أن القرآن كلّه هدى، والآيات المتشابهة، يمكن معرفة معانيها من خلال المحكم من الآيات، أو بما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح والحسنة والمقبولة، لأن النبي هو المكلف ببيان القرآن. ولكنه عمى على الذين لا يؤمنون به، وهذا هو واقع جميع الفرق الضالة، والتي رأسها المعطلة الملحدين في صفات الله تعالى، لما أعرضوا عن هديها صار عليهم عمى، نسأل الله العافية.

ثم حكموا أيضاً بأن الأحاديث ليست هدى في معرفة الله وصفاته، لكي لا يقبلوها كمفسِّرة ومُبيِّنة للقرآن، لأنهم إنما يريدون التلاعب بمعاني القرآن الكريم، وفق ما لا يتعارض مع قول أئمتهم فلاسفة الأغريق.

وانقسموا في شأن الأحاديث قسمين: 

قسم قال: نكذّب بها صراحة ونضربها بالعِلل، ومن لم يكن له علّة يوجدون له علّة، ثم يضربونه بها، وإن كانت في حقيقة الأمر لا تؤثر على صحة الحديث عند أهل الحديث الذين أسّسوا هذا العلم.

وقسم قال: بل نحرّف معانيها كما حرّفنا معاني القرآن الكريم، ونبحث لها عن تأويلات تحيلها عن غير ظاهرها.

ثم عمدوا إلى آيات لا تفيد مرادهم في التعطيل، واحتجوا بها على تعطيلهم لصفات ربهم عز وجل، وإنما يريدون بذلك التحايل على الناس والتلبيس عليهم والتدليس والغش والخداع.

وقد صدق الإمام عبدالله بن قدامة، عندما قال في كتابه المناظرة في القرآن، بأن هذه الطائفة شرّ طائفة خرجت في الإسلام، لاتن كل بدعة هي دون بدعتهم في الشرر والضرر، وماهو شرٌّ منها إنما بُني عليها.

فأهل السنة والحديث والأثر والجماعة، إذا قرأوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، انشرحت صدورهم واستنارت وجوههم، لما يجدون من موافقة كتاب الله تعالى وسنة نبيه لمكعتقدهم.

وأما المعطلة الملحدة في صفات الله تعالى، وسائر الفرق الضالة، غذا قرأوا القرآن والسنة، ضاقت صدورهم وأظلمت وجوههم، لما يجدون من مخالفة الكتاب والسنة لمعتقداتهم المستوردة، فهم دائبين في تحريف نصوصهما، والتكّلف في ذلك.

فنحمد الله تعالى على هدايته ونسأل الثبات حتى نلقاه إنه جواد كريم.