السُنَّة، لا تنسخ القرآن، فالقرآن كلام الله عز وجل الذي تكلّم به، وإن كانت السنّة من حيث كونها شرع ووحي من الله، كالقرآن، ولكنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخيرية هنا والتماثل مطلقة، تعني الخيرية من جميع الوجوه والتماثل من جميع الوجوه، وكلام المخلوق لا يكون خيراً من كلام الخالق عز وجل، ولا مثيلاً له، فثبت بذلك أن السنّة لا تنسخ القرآن.
لذلك لا يمكن أن ينسخ القرآن، إلّا قرآن مثله.
والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخ مِن ءَایَةٍ أَو نُنسِهَا نَأتِ بِخَیر مِّنهَاۤ أَو مِثلِهَاۤ أَلَم تَعلَم أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیء قَدِیرٌ﴾ [البقرة ١٠٦]
كما أن دور النبي صلى الله عليه وسلم، هو بيان ما أجمل حكمه أو أشتبه معناه من آي القرآن، وتخصّص عامه، وتعمّم خاصّه، وليس دوره إبطال الأحكام القرآنية ونسخها!
قال تعالى: ﴿بِٱلبَیِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلنَاۤ إِلَیكَ ٱلذِّكرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیهِم وَلَعَلَّهُم یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل ٤٤]
وقد ادعى بعض من يزعم أن السنة تنسخ القرآن، بأن النسخ من البيان، وهذا سفه وعته، فالبيان شيء والنسخ شيء أخر، البيان شرح للنص، والنسخ إبطال له، فأين البيان من النسخ.
وكذلك النبي قد يسن حكماً زائدا على الشرع، لعلّة شرعيَّة يتضمّنها القرآن ابتداءً، ولم يأتي القرآن ببيانها، فبيّنها بالسُنَّة.
ولا يوجد دليل أساساً على وقوع مثل هذا النسخ، والأحاديث التي قُدِّمت لإثبات هذه الدعوى، لا تفيد ذلك، وإنما جاء هذا الادعاء من سوء فهم من ادعى هذه الدعوى.
وسوف نأتي عليها إن شاء الله لبيان خطئهم في ذلك.
فقد احتجوا بحديث تحريم لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر، وزعموا أن هذا ينسخ قوله تعالى: ﴿قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِم یَطعَمُهُۥ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیتَةً أَو دَما مَّسفُوحًا أَو لَحمَ خِنزِیر فَإِنَّهُۥ رِجسٌ أَو فِسقًا أُهِلَّ لِغَیرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضطُرَّ غَیرَ بَاغ وَلَا عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُور رَّحِیم﴾ [الأنعام ١٤٥]
وهذا قول ساقط.
لأنه بناء على ادعائهم، فقد بطل تحريم الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وذبائح المشركين لأوثانهم، لأن النسخ يبطل حكم الآية بالكلية.
وهذا ما لا يقول به حتى من يدعي أن السنة تنسخ القرآن، بل هم عاملون بهذه الآية، فكيف يقولون بعد هذا أنها منسوخة بالحديث؟!
والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلّم استثنى لحوم الحمر الأهلية من بين الحيوانات العاشبة، لنجاسة لحمها في رواية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا، سنّ حكما زائداً على الآية ولم ينسخها.
وهذا مثل تحريم أهل العِلم لأكل الفأر، مع أنه لم يرد في الكتاب أو السنة حرمة أكله تصريحاً، وإنما جاءت الإشارة بنجاسته وبقتلها في الحِلّ والحرم، ولكن لمّا عُلِمت نجاسته، قيس بالخنزير، فحُرِّم أكله.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم، حرّم أكل لحوم الجلَّالة وشرب ألبانها، والجلّالة هي التي تأكل الدمن، من الأنعام، وذلك أن لحومها تنجس بسبب ما تأكله من نجاسات، فحرم أكلها لأجل ذلك.
وهذا الأصل، وهو تحريم أكل النجاسات، موجود في القرآن!
مع أن تحريم لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة فيه بحث طويل، وهل تحريمهما كان مؤبداً أو مؤقتاً، ليس هذا موضعه.
وكذلك حرّم النبي صلى الله عليه وسلم، الوشم، لأنه تشويه للخلقة، وهذا الأصل موجود في القرآن.
وكذلك حرّم وصل الشعر والنمص، لما فيه من الغِشّ والخِداع، وأصل تحريم الغِشّ والخِداع موجود في القرآن.
فكل ما حرّمه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من البيان، لأن أصل الحكم موجود في القرآن سلفاً.
واحتجوا بما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات".
قالوا: ولا نجد الخمس رضعات في القرآن، فدل هذا على أن هذا الحديث، نسخ آية العشر رضعات.
قلت: وهذا قول باطل، فقد ذكر الرواة الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت: "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن".
إذا حسب حديث عائشة، أن آية الرضاعات العشر نسخت بأية قرآنية أخرى أمرت بخمس رضعات فقط. ولم ينسخها الحديث.
ولكننا لا نجد الخمس رضعات في القرآن أيضاً، فتبيّن أن أمّ المؤمنين إما نسيت أو أخطأت، أو أن أحد الرواة وهم في رواية هذا الخبر عنها.
ولذلك قال الإمام مالك: "وليس على هذا العمل".
أي: ليس العمل على حديث عائشة عند أهل المدينة، وأن هذا الحديث لا يصحّ متنه، بدلالة أن القرآن لم يرد فيه شيء عن عدد الرضعات لا عشر ولا خمس، وإنما هي أمور قدرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجبها.
وكان الإمام مالك يقول: بأن المصة والمصتان تحرم، كما في المدونة.
لذلك لا يحتج بحديث عائشة في ادعاء أن الحديث ينسخ القرآن.
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا وصية لوارث" وزعموا أنها ناسخة لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَیكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلمَوتُ إِن تَرَكَ خَیرًا ٱلوَصِیَّةُ لِلوَ ٰلِدَینِ وَٱلأَقرَبِینَ بِٱلمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلمُتَّقِینَ﴾ [البقرة ١٨٠]
وهذا قول باطل.
لأنهم فسّروا الوالدين في الآية، بالأب والأم، فإن كان ما ذهبوا إليه صحيحاً، فالجواب: أن هذ الآية إنما نزلت قبل أن تفرض الفرائض، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه الآية. فالقرآن هنا نسخ القرآن، وإنما الحديث ورد لبيان أنه بعد أن فرض الله الفرائض لم يعد هناك مكان للوصية، لأن الله فرغ من ذلك، لا أن هذا الحديث نسخ الآية!
فهذا بيان من النبي أن آية المواريث نسخة آية الوصيّة، فلم يعد للوارث وصيّة.
وقد يُراد بالوالدين في الآية، الجدّ والجدّة، فهما والدان، فيكون معنى الآية، إذا كان جدّ وجدّة المتوفى أحياء، وليس لهم نصيب من الميراث، فمن البرّ أن يوصي حفيدهما لهما بشيء من المال، وكذلك بعض قرابته.
ومن ذلك أحاديث الرجم، زعموا أنها ناسخة لآية الجلد في سورة النور، في قوله تعالى: ﴿ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجلِدُوا كُلَّ وَ ٰحِد مِّنهُمَا مِائَةَ جَلدَةۖ وَلَا تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَة فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلیَومِ ٱلـَٔاخِرِۖ وَلیَشهَد عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَة مِّنَ ٱلمُؤمِنِینَ﴾.
وهذا باطل.
وقد صحّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه أقام الحدّ على امرأة متزوجة قد زنت، فضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة نبي الله صلى الله عليه وسلم".
فهل رأيتم علي بن أبي طالب، زعم أن آية النور منسوخة، أم على الله وعلى رسوله تفترون!
وفي مسألة الرجم، بحثٌ طويل، ليس هذا موضعه.
ولكن، قد ورد في السُنَّة، أنه لا يلزم تطبيق حدّ الرجم، كما في خبر ماعز الأسلمي، فلو كان الرجم فرضاً من الله تبارك وتعالى، ولو كان على لسان نبيِّه، للزم تطبيقه، ولم يسقط بأي حال، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسقط حد القطع عن السارق، حتى بعد أن صفح عنه المسروق.
فثبت بذلك، أن أحاديث الرجم، لم تنسخ آية الجلد في سورة النور.
وقد احتج بعض متأخريهم بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نفسي بيدِه ليوشِكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكمًا مقسطًا فيَكسرُ الصَّليبَ ويقتلُ الخنزيرَ ويضعُ الجزيةَ ويفيضُ المالُ حتَّى لا يقبلَه أحدٌ"
وقالوا: بأن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: ﴿لَاۤ إِكرَاهَ فِی ٱلدِّینِ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشدُ مِنَ ٱلغَیِّ فَمَن یَكفُر بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱستَمسَكَ بِٱلعُروَةِ ٱلوُثقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ [البقرة ٢٥٦]!
وهذا باطل.
وذلك أن كسر عيسى للصليب وقتله للخنزير، لا يعني بالضرورة أنه يجبر النصارى أو غيرهم على الإسلام، بل قد يفعل ذلك لأمرين:
الأول: ربما يفعل ذلك إرغاماً لهم، وللدلالة على كذبهم في دعوى صلبه وبطلان دينهم، ولكنه لا يرغمهم على ترك دينهم، لأنه قد يبقى على النصرانية من هو نصراني، لكونه لم يؤمن بصدق عيسى عندما ينزل من السماء.
والثاني: أنه ربما يفعل ذلك لأن النصارى يدخلون في دين الله راغبين وراهبين، لما رأوا ما مع عيسى من الآيات الدالة على صدقه ونبوّته، فلا يوجد من يعبد الصليب أو يأكل الخنزير.
لأنه لم يرد أن عيسى عليه السلام يجبر النصارى على الإسلام، حتى يقال بأن هذا الحديث نسخ القران.
وأما قوله: "ويضع الجزية" فله تأويلان:
التأويل الأول: أنه يتركها لأن النصارى وغيرهم من الأمم أسلموا راغبين وراهبين.
والتأويل الثاني: أنه يفرضها عليهم، فتكون وضع الجزية، بمعنى فرض الجزية، لأن من النصارى من لم يؤمن به، وبقي على نصرانيّته.
والراجح، أن من اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى من يبقى على دينه أثناء بقاء عيسى وبعد وفاته، وأن عيسى يضع الجزية عليهم، أي: يفرضها عليهم، بعد أن لم يكن المسلمون يأخذون الجزية على الكفار، لضعفهم، وبعدهم عن الالتزام بالدين وتعاليمه، وتعاقبهم على ذلك.
ولا أدل على ذلك، من أنه ورد في أحاديث علامات الساعة، أن الكفّار يبقون على كفرهم في زمن عيسى عليه السلام وبعد وفاته، حتى أن الدابة تسم الناس هذا مسلم وهذا كافر، وأن الله يبعث ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، فلا يبقى سوى الكفار، وعليهم تقوم الساعة.
فإذا أجبر عيسى الناس على الإسلام، توارثوه، فمن هم الكفار الذين سوف تسمهم الدابة ويبقون بعد المؤمنين عندما يقبض الله أرواحهم؟!
ولو صح أن عيسى يجبر الناس على الإسلام في أخر الزمان، فهذا الحديث إنما هو إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يقع في أخر الزمان، ولم ينسخ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وإنما أخبر أنه سوف ينسخ بأمر الله تعالى لعيسى بذلك، فما شأن السنة هنا بالنسخ!
فكيف يقال بعد هذا أن هذا الحديث ناسخ للقرآن!
إذا هذه الأحاديث وشبهها مما يحتج به من يدعي أن السنة تنسخ القرآن، ليس فيها حجة على دعواهم، إنما أُتي من سوء فهمهم، فالقرآن لا ينسخه سوى القرآن، وأما السنة فينسخها القرآن وتنسخها السنة أيضاً.
فكلام الله تبارك وتعالى الذي هو كلامه، يَعلو ولا يُعلى عليه.
ولذلك لما سئل الإمام أحمد بن حنبل، عن قول ابن أبي كثير: "السُنة قاضية على الكتاب" ما تفسيره؟ قال: "أجبن أن أقول فيه، ولكن السُنّة تفسِّر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلّا القرآن". اهـ
رواه ابو داود في مسائله.