الأربعاء، 17 يناير 2024

المسائل التي لا يعذر فيها المخالف

وسوف أثبت ما أقول بالأدلة الشرعية بإذن الله تعالى

فأقول مستعينا بالله وحده.

أن المسائل الدينية على قسمين:

قسم يُدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وقسم لا يدرك علمه وحاله إلّا بالخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

فأمّا ما يدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فلا عذر فيه البتّة، لا بجهل ولا بغيره.

وهذه المسائل هي: الشرك في ربوبيّة الله تعالى أو ألوهيّته، لأن الإقرار بتفرّد الله تعالى بالملك والخلق والأمر والتدبير وأنه وحده المستحق للعبادة بمعناها الشرعي، فلا يدعى سوى الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه سوى الله سبحانه وتعالى، أمر ثابت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وإذا كان هذا ثابتاً بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فإنه يثبت بالفطرة أنه لا يذبح ولا ينذر تقرباً للحصول على أمر لا يستطيعه إلا الله عز وجل، إلّا لله سبحانه وتعالى، لأن الذبح والنذر لغير الله تعالى، للتقرب له لجلب نفع أو دفع ضُرّ، لا يكون إلا باعتقاد أن هذا المذبوح له والمنذور له قادر على جلب ذاك النفع ودفع ذاك الضُرّ.

وكذلك كل عمل يثبت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أنه شرٌ وقبيح، في نفسك أو غيرك، لا عذر فيه.

سواء في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العِرض.

فأما في نفسك فمثل: الانتحار، وشُرب الخمر، وتناول المخدرات، ونحو ذلك.

وأما في غيرك، فمثل: القتل بغير وجه حق، واللواط، والزنا، ورجم المحصنات الغافلات، وأكل أموال الناس بالباطل، بأي وجه كان، بالغش والخداع والتحايل والسرقة والربا وقطع الطريق، والبهتان والغيبة والنميمة، وأذيّة الناس بأي نوعٍ من الأذى، والكذب، والخيانة، وسوء الأخلاق، ونحو ذلك.

فهذه أمور لا تحتاج فيها إلى مخبر ليخبرك بأنها أعمال شرّيرَة وقبيحة، بل هذا يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، لذلك لا عذر فيها لأحد.

ومع أن هذه الأمور من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى دليلٍ أصلاً، ولكن قطعاً لِمِقْوَل أهل الأهواء والبدع، سوف نورد بعض الأدلة الشرعيّة:

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.

رواه البخاري.

وفي رواية عند مسلم: - قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام.

فلو كان العبد معذورٌ بعدم بلوغ الحجة إليه في حرمة عمل هذه الأشياء، لما أخذ العبد بما عمل في جاهليّته، وإنما أُخِذ بما عمل في إسلامه، وبعد بلوغه الخبر بحرمة القيام بهذه الأعمال.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

رواه مسلم.

وقوله: "ماتوا في الإشراك" أي: ماتوا في زمن الشرك، في زمن الجاهلية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "متى مات هؤلاء". فهو يسأل عن زمن موتهم.

فهؤلاء ماتوا في زمن الشرك، في الجاهلية، وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو قبل بلوغهم دعوته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أخذوا بما عملوا في جاهليّتهم، ولم يعذروا بشيء من الأعذار، وعذبوا في قبورهم بسببها.

فتبيّن من هذه الأحاديث، بكل وضوح، أن ما يقع من العبد من شرور وقبائح، لا عذر له فيها البتّة.

فإذا كان هذا في القتل بغير وجه حق، أو اللواط والزنا، أو غير ذلك من الأعمال التي ذكرناها سابقاً، فكيف بالشرك الذي بطلانه، أوضح من بطلان تلك الأمور.

وإلا فهل يمكن أن تعتقد أن ملاكاً أو إنساً أو جِنَّاً، ميّتاً أو غائباً، أو صنماً أو حجراً أو شجراً، قادر على سماعك أو رؤيتك أو العلم بحالك، أو أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، في مسألة لا يقدر عليها عامة المخلوقات؟! 

طبعاً: الجواب، هذا لا يمكن اعتقاده، إلا أن تجبر وترغم نفسك على الإيمان بذلك، والمخالفة في ذلك، صحيح العقل، وسليم الفِطرة!

فإن قال مشرك: الله هو من وهبهم هذه المنزلة، وجعلهم شركاء له في الأمر والتدبير، ولأجل ذلك فنحن نصرف لهم الدعاء فيما يدعى فيه الله تعالى.

فالجواب: إن ما يدعونه لهذه المخلوقات، لا يأتي على بال، ولا يطرأ على فِكر، وإذا كان هذا كذلك، فهم مطالبون بأن يأتوا بنصّ من القرآن أو السنة، يجيز لهم هذه الأعمال، وإلا كان قولهم افتراء على الله تعالى وافتيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وما يحتجون به من الأحاديث، ليس لهم فيها حجّة، فجميع الأحاديث التي احتجوا بها، ليس في واحد منها جواز دعاء الأنبياء أو الأولياء أو المشايخ أو الجن أو الملائكة أو الأحجار أو الأشجار مع الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وليس في واحد منها، أن الله تعالى اشرك أحداً من مخلوقاته معه في ملكه وخلقه وأمره وتدبير وعبادته، 

وقد بينت ذلك في بحث بعنوان: وقفة مع الأحاديث التي يحتج بها الصوفية في جواز الشرك بالله تعالى في الدعاء والاستغاثة.

كيف والأدلة دالة بخلاف ذلك، فقد قال الله تعالى: ﴿ .. لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ .. ﴾ [الشورى ١١] وقال تعالى: ﴿وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾ [الإخلاص ٤] أي: لن يماثله أو يكافئه، شيء من مخلوقاته في كمال صفاته، لا هبة منه سبحانه لأحد من خلقه، ولا بالممارسة والرياضة، حُكْمٌ حَكَم به الله تعالى على جميع خلقه، ولم يستثني أحدا. 

وهذا الجواب كافٍ لرد شبهة من يزعم أن من وقع في الشرك قبل بلوغ الحجة معذور، وأنه ممن أسماهم: أهل الأعذار.

ولكن تأكيداً على بطلان قولهم، نأتي ببعض الأدلة الداعمة لقولي أعلاه.

فعن زيد بن أثيع، قال: سألت عليا بأي شيء بعثت؟ قال: "بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر".

رواه الترمذي والدارمي وابن أبي شيبة.

وقوله: "بأي شيء بعثت" أي: يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج مع أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع للهجرة.

وهذا الحديث صريح في أنه لن يدخل الجنّة إلا من مات مسلماً، وأما من مات على الشرك فلا حظ له في الأخرة.

وهذا دليل صريح على أن المشرك لا عذر له.

ويزيد ذلك بياناً، ما رواه ابن ماجه، بسند صحيح، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت.

رواه مسلم.

ومن المعلوم أن والديّ النبي ومن مات مشركاً قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، لم تبلغهم الحجة، ومع ذلك، فهم مخلّدون في النّار، عياذاً بالله.

ومن عجائب أهل الأهواء، أنهم يردون هذه الأحاديث الصحيحة بأحاديث أهل الأعذار، وأحاديث أهل الأعذار لا يصحّ منها شيء، فكيف يقدمونها على الأحاديث الصحيحة، بل ويبطلون الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة لأجلها!

وزعم بعض أهل الأهواء، أن الأحاديث التي ورد فيها أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، مخالفة لصريح القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء ١٥]

وهذا باطل، لأن تلك الأحاديث لا تتعارض مع الآية الكريمة، لأن الآية الكريمة، لا تفيد المعنى الذي ذهبوا إليه، وإنما المراد منها، أن الله تعالى، لا يحل عذابا عامّاً في الدنيا على أحد من خلقه، حتى يبعث رسولا، كما فعل بقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ یَبۡعَثَ فِیۤ أُمِّهَا رَسُولا یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾ [القصص ٥٩]

فتبيّن أن المراد بالعذاب في سورة الإسراء، إنما هو العذاب العام، الذي تهلك فيه القرى، وليس العذاب الأُخرَوي، الذي يوقعه الله تعالى على المخالفين يوم القيامة.

كما أنه لا يعني أيضا العذاب الخاص، الذي يوقعه الله تعالى على القرى، فيصيب بعضهم ويدع بعضهم، لأن هذا العذاب يقع وإن لم يبعث رسول، إذا كثر الخبث في الناس.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.