الأحد، 29 ديسمبر 2024

القرآن يعلو ولا يعلا عليه

ذكرت سابقاً، أن القرآن الكريم نصٌّ قطعي الثبوت، وأن السُنَّة نصٌ ظنّيّ الثبوت، ولا يبلغ درجة قطعي الثبوت، إلا بعدة شروط.
وأوّل هذه الشروط، هو أن لا يتعارض مع القرآن معارضةً لا يمكننا معه الجمع بينها، فعندئذٍ، يُقدَّم القُرآن، ويُطرح الحديث.
وذلك أن الله تبارك وتعالى، لم يكل حفظ هذا الكتاب العزيز لأحدٍ من خلقه، بل تكفَّل ربُّنا عز وجل بحفظه بنفسه.
بينما أوكل حفظ السُنَّة لعباده، كُلٌّ بحسبه. 
ولعلّ الله تبارك وتعالى، إنما أراد بذلك، أن يتدارس الناس العِلْمَ بينهم، ويتفاضلون فيه، ويقع التمايز بينهم في ذلك.
وجعل سبحانه وتعالى على ذلك من الأجر، ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ.
بل لو كان الحديث مسلسلاً بالثقات، وهو خبر آحاد، فإننا لا نستطيع أن نعطيه صفة قطعي الثبوت، من الدرجة الأولى، ما لم يكن متواتراً. 
والمتواتر عندي، هو الحديث إذا روي عن أربعة من الرواة فأكثر، في جميع طبقات سند الحديث.
بل نعطيه صفة قطعي الثبوت من الدرجة الثانية، لأننا لا نأمن أن يكون هذا الواحد، وإن كان ثقة، قد وهم أو أخطأ في نقل الخبر. 
لأنه مهما كان الإنسان ثقة وثبتاً، فهو بشر، والبشر مهما كان ثقة وثبتاً لا يؤمن عليه الوقوع في الخطأ والوهم والنسيان.
وهذا شيء علمته بنفسي من كتب الحديث.
ولا أعلم - حسب ما أُتيت من العِلم - أن هناك حديثاً متواتراً يخالف نصّه آية من كتاب الله تعالى، مخالفة لا يمكننا معه الجمع بينهما.
نعم، قد نجد حديثاً متواتراً، فيه حكم زائد على ما ورد في القرآن، ولكن لا أعلم حديثاً متواتراً يخالف نصّه نصّ القرآن مخالفة لا يمكننا معه الجمع بينهما.
ولذلك نقول، بأن القرآن يَعْلُو ولا يُعلا عليه. 
وأنه الحَكَم على الأخبار، من حيث الصحة والبُطلان. 
فإذا خالف حديث، وإن كان مسلسلاً بالثُقات، ولو فرضنا أنه متواتر، آية من كتاب الله تعالى، لكان في مخالفة هذا الحديث لنصّ القرآن، ما يدلّ على بطلانه.
فإذا علمنا ذلك، علمنا بطلان ما ذهب إليه بعض المنتسبين لمدرسة أهل الحديث، من ادعائهم بأن السُنَّة إذا صحّ إسنادها، تكون قاضية على القرآن!
فقد روى الدارمي في سننه، بسنده، عن يحيى بن أبي كثير، أنه قال: "السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة" اهـ
ويحيى بن أبي كثير من صغار التابعين، وقوله فيه تجاوز واضح، وجرأة على كتاب الله عز وجل.
وهذا من أشنع ما قرأت، إذا قدّمت هذه الطائفة الضالة، الحديث، الذي أوكل الله تعالى على عباده حفظه، على القرآن الكريم، الذي لم يكل الله سبحانه حفظه إلّا لنفسه، فأين عقول هؤلاء القوم!
وأظن والعِلم عند الله وحده، أنه ما جرّ هؤلاء القوم، إلى القول بهذا القول الشنيع، إلا الإمعان والمبالغة في الرد ومخالفة أهل الكلام وأهل الرأي.
فأهل الكلام وأهل الرأي، بالغوا في ردّ السُنَّة، حتى قدّموا عقولهم القاصرة وآرائهم الظنّيَّة على السُنَّة.
فجاء هؤلاء، فبالغوا في قبول السُنّة، حتّى قدموها على القرآن الكريم.
والمذهب الحق، وسط بين مذاهب هذه الفرق الضالة.
فالسُنَّة الصحيحة حجَّة، وهي مقدَّمة على العقل فيما لا يمكن للعقل إدراكه، ومقدمة على أراء الرجال، ولكنها لا تُقدم على القرآن.
وقد احتج من قال بهذه المقالة الآثمة، بما رواه الترمذي في جامعه عن ‌أبي رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمر مما أمَرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
وقال عنه: حديث حسن.
وروى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله". اهـ
وقال عنه: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
ورواه الدارمي في سننه، عن المقدام، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خيبر الحمار وغيره. ثم قال: "ليوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال، استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله، فهو مثل ما حرم الله تعالى".
وقول الراوي: أن النبي قال هذا الحديث عُقيب تحريمه للحوم الحُمُر الأهلية وغيرها، فليس مراده بذلك، أنه قال هذا الحديث، عُقيبها مباشرةً، لأن حديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية ورد بأسانيد صحاح، وليست فيه هذه العبارة. 
كما أن الترمذي روى هذا الحديث، ولم يربطه بنهي النبي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فدل ذلك على أن ذكر تحريم النبي لحوم الحمر الأهلية وغيرها، إنما هو توضيح من الراوي.
خصوصاً وأن الصحابة أنفسهم، لا يعلمون هل نهي النبي عن أكل الحُمُر الأهلية يوم خيبر، لنجاسة لحومها أم لأجل الظهر.
بمعنى أنهم لا يعلمون، هل النهي عن أكل الحمر الأهلية على التأبيد أم مؤقتاً.
وقصار ما تدلّ عليه هذه الأحاديث، أن النبي صلى الله عليه وسلّم، بيّن ما أجمل حكمه في القرآن، وسَنّ أحكاماً زائدة على ما ورد في القرآن، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلّم من أن يعترض معترضٌ على ذلك، فيترك ما بيَّنه أو ينكر ما سَنَّه. 
وقد حرّم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وحرم لحوم الحمر الأهلية، وحرَّم نكاح المتعة، إن صح أن تحريمه لأكل لحوم الحُمُر الأهلية وتحريمه لنكاح المتعة، تحريم على التأبيد، وهذا لم يثبت.
وهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحلّ الله، ولكن النبي ما حرَّم ذلك، إلّا بإذنٍ من الله تعالى في ذلك، فالأمر كلّه لله تعالى، هذا كُلّ ما في الأمر.
وليست مخالفة النبي فيما حرَّم، كمخالفة الله تعالى في ذلك، مخالفة الله أعظم وأكبر، وأشدّ عقوبة وألماً، ولكنه مثل ما حرم الله تعالى في استيجاب العقوبة على المخالف.
وأما الضالون، فذهبوا أبعد من ذلك، فبناء على هذا الحديث، زعموا أن السُنَّة قاضية على القرآن! ثم بناء على هذا الأصل الذي أصّلوه، زعموا أن السُنَّة، إذا صحّ إسنادها، وكانت مخالفة لحُكمٍ ورد في القرآن الكريم، فإنها عندئذ تكون ناسخة للقرآن، نعوذ بالله من الضلال!!
والله أعلم وأحكم.

الجمعة، 26 يناير 2024

مسألة ردع المخالفين

وهم أهل البدع والعصاة.

وسواء كانت بدعتهم أو معصيتهم مغلَّظَة مكفِّرة أم دون ذلك.

فأما إن كان المبتدع أو العاصي فرداً، فإنه تطبَّق عليه الأحكام الشرعية الرادعة، فإن لم يقضي الله عزّ وجل ورسوله فيها بحدّ أو عقوبة، فيُعزَّر بما يراه وليّ أمر المسلمين، رادعاً له ولأمثاله.

وإن كانوا جماعة لهم شوكة ومنعة، فإنهم يقاتلون، فمن مات منهم فسحقاً له، ومن بقي منهم يُجبرون على الطاعة.

وهذا في جميع مسائل الدين، سواء التي نُصّ عليها في القرآن الكريم، أو نُصّ عليها في السنة الواجبة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فيعاقب المعطلة والممثلة، والقدرية والجبرية، والمرجئة والخوارج، والشيعة والناصبة، والصوفية.

وكذلك يعاقب من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج.

حتى وإن لم ينكروا فرضيّتها.

فلو أن فرداً قال: أقر بالحج ولكني لن أحجّ أبدا، أي: أعلن ذلك وجاهر به، فإنّه يعزّر، حتى يعلن بانه متى استطاع وتيسّر له الحج فسوف يحجّ.

ولو أن طائفة من الناس قالوا: نقر بالحج ولكن لا نحج أبدا، قوتلوا حتى يعلنوا بأنهم متى ما استطاعوا وتيسّر لهم الحج فسوف يحجّون.

وقس على ذلك سائر أركان الإسلام.

والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قاتل الناس حتى أذعنوا بشرائع الإسلام.

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من القبائل والقرى من لم يعلن ردّته عن دين الإسلام، بلزعم أنه مسلم، ونطق الشهادتين، واقام الصلاة، ولكنهم آمنوا بنبوّة مسيلمة وطليحة وسجاح والأسود العنسي، فكفّرهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأنهم وقعوا في بدعة مكفِّرة، مع علمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأنه خاتم النبيّين، وقاتلهم، واستباح دمائهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم.

ومن القبائل والقرى، من لم يرتدّ عن الإسلام، لكنهم منعوا الزكاة فقط، وقالوا: نقرّ بها ولكن لا نؤديها لأبي بكر، فقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى أدّوها راغمين.

فأهل البدع والعصاة، يعاقبون، حتى يرجعوا عن بدعتهم وعن معصيتهم.

فإن كان فرداً، ووقع في بدعة مكفِّرة، استتيب، فإن تاب وإلا قتل حدّاً للردّة.

وإن لم تكن بدعته أو معصيته مكفِّرة، فإن كان لبدعته أو معصيته حدّ منصوص عليه في الوحي، أقيم عليه، وإن لم يكن هناك نص في عقوبته، يعزّره إمام المسلمين بما يراه رادعاً له ولأمثاله.

وإن كان المخالفون جماعة لهم شوكة ومنعة، يقاتلون، سواء كانت بدعتهم مكفرة أو غير مكفرة، فمن قتل منهم فسحقاً له، ومن عاش منهم يجبرون على الطاعة.

والله أعلم وأحكم.

وهنا تنبيه: وهو أن المكلَّف بمعاقبة المخالفين، هو إمام المسلمين، فإن لم يقم إمام المسلمين بواجبه في هذا الخصوص، فليس لآحاد الناس أن يقوم بذلك، بل يكتفي المصلحون بالدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يبدأ بنفسه وأهل بيته وجيرانه وقرابته.

لقول النبي صلى لله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان"

رواه مسلم.

الخميس، 25 يناير 2024

متى تقوم الحجة على المخالف

اعلم أنك لا تحتاج في إقامة الحجة على المخالفين، في المسائل التي تحتاج إلى إقامة حجة، إلى أن تشق القمر نصفين، أو تفرق البحر فرقتين.

كل ما يلزمك لإقامة الحجة على المخالف، هو أن تبيّن له الأدلة من القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وذلك أنه ليس هناك كلام أوضح وأبين وأكمل وأبلغ وأجمل من كلام الله تعالى، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكيف لا يكون ذلك، وقد أنزل الله كتابه نوراً وهدى للناس وشفاء.

ومن لم يؤثِّر فيه كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يؤثر فيه كلام غيرهما.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "و الذي نفْسُ محمدٍ بيدِهِ ، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ ، لا يهودِيٌّ ، و لا نصرانِيٌّ ، ثُمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به ، إلَّا كان من أصحابِ النارِ".

رواه مسلم.

ومن الأدلة على ذلك، ما روي أنس بن مالك أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعي معزى.

رواه مسلم.

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغير على المشركين، مع أنه لم يبعثهم لهم رسول، لما فشا خبر الإسلام، فبمجرد سماعهم بخبر الإسلام قامت عليهم الحجة، غذ كان يلزمهم أن يهتموا لذلك، كما يهتمون لأمور دنياهم، ولكنهم لم يفعلوا، فكانت الحجة قائمة عليهم بذلك.

فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن مجرّد السماع كافٍ في بلوغ الحجة.

وهذا إنما يكون فيما لا يمكن إدراكه إلا عن طريق السمع، أي: بالخبر عن الله أو عن رسوله.

وفي حديث أنس بن مالك، فائدة نفيسة، وهو في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذن: "على الفطرة" فدلّ هذا على أن دين الفطرة هو دين الإسلام، ذين التوحيد، وفي هذا رد على الجبرية والمجبلة.

إلا إن كان هناك شبهة شُبِّه بها عليه أهل الجهالة، فعليك أن تكشف له هذه الشبهة، ببيان الحق فيها.

مثل شخص أوِّلت له آيات أو أوِّل له أحاديث على غير تأويلها، فيلزمك أن تبيّن له التأويل الصحيح، مستنداً في ذلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

فإن خالف بعد البيان، كان معانداً، وتبيّن زيغه وضلاله.

وهذا إنما يكون في الآيات والأحاديث التي تشتمل على مفردات وعبارات يمكن للمبتدعة أن يحرّفوا معناها، ويتأولونها على غير تأويلها، وهي قليلة في القرآن والسنة.

عن محارب بن دثار , أن أناسا شربوا بالشام الخمر , فقال لهم يزيد بن أبي سفيان: شربتم الخمر؟ قالوا: نعم , بقول الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية. فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب , فكتب إليه: إن أتاك كتابي هذا نهارا , فلا تنتظر بهم إلى الليل , وإن أتاك ليلا , فلا تنتظر بهم نهارا , حتى تبعث بهم إلي , لئلا يفتنوا عباد الله. فبعث بهم إلى عمر , فشاور فيهم الناس , فقال لعلي: ما ترى؟ فقال: أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه , فإن زعموا أنها حلال , فاقتلهم , فقد أحلوا ما حرم الله , وإن زعموا أنها حرام , فاجلدوهم ثمانين ثمانين , فقد افتروا على الله. وقد أخبرنا الله عز وجل بحد ما يفتري بعضنا على بعض.: فحدهم عمر ثمانين ثمانين.

رواه ابن قدامة في المغني، عن الخلال في مسائله.

فانظر كيف أن عمر لم يسقط عنهم العقوبة مع كونهم كانوا مخطئين في تأولهم، بل ولم يعذرهم، لأنهم خالفوا الحق مع تمكّنهم من الوصول إليه.

والشاهد من هذا الخبر، أنه اكتفى بإقامة الحجة عليهم بإبلاغهم الحق في ما أخطئوا فيه، فأين هذا ممن يزعم أنه لو قرأ القرآن وقرأت السنة ورفعت الشبهة عن المخالفين، فيبقون معذورين إما بالجهل أو الاجتهاد!

وأما في توحيد الربوبية والألوهية، فلا توجد مثل هذه الآيات والأحاديث، ولا يستطيع أحد أن يحرف معناها، أو يبدل مبناها، فلا يقال بأن المشرك معذور من هذه الناحية.

وإن كان المخالف قد كُذِب عليه في معنى كلمة عربيّة، فقام أهل الضلالة بتحريف معنى كلمة عربيّة لكي لا تتعارض مع أهوائهم وبدعهم وضلالاتهم، بُيِّن للمخالف حقيقة الأمر، وأن هذا المعنى ليس من معاني تلك الكلمة العربيّة، وإنما هذا من وضع الوضاعين، ورويت له الروايات الدالة على ذلك.

وهذا إنما يكون في باب الصفات، عندما حرّف المتكلمون معنى الاستواء، فقالوا: استولى أو غلب وقهر، وهذا مالا تعرفه العرب من كلامها. وقد ورد عن أئمة اللغة تكذيب ذلك، فيُبيَّن للمخالف ذلك.

والمخالفة في باب الصفات عظيمة، ولكن لما كان هناك من الىيات والأحاديث ما يستطيع الزنادقة التشبيه بها على الناس، والتلبيس بها عليهم، وسّع العلماء العذر لهم.

كمن يحتج بقوله تعالى: "وهو معكم أينما كنتم" وقوله: "وهو اقرب إليه من حبل الوريد" 

وهذه يحتج بها من يقول بأن الله في كل مكان، شرط أن لا يعتقد أن الله حال ومتحد في خلقه، لأن من يعتقد ذلك، قد خرج عن الحد المعقول لتأويل هذه الآيات.

مع أن من قرأ القرىن دون أي تأثير خارجي، يعلم أن المراد بهذه الآيات معيّة العِلم، لا معيّة الذات.

ولو قلنا بأنه يدخل في هذه الآيات معيّة الذات أيضاً، فقولٌ صحيح، لأن الله تعالى فوق العالم، وأكبر من العالم، وكل شيء قريبٌ منه، ليس هناك شيء بعيدٌ عن متناول يده.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَومَ خَلَقَها مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، وأَرْسَلَ في خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً" اهـ

وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره.

فالمعطل الذي لم يكن تعطيله عن إصرار على الباطل، يأخذ بهذا الحديث، في أن صفات الله مخلوقة، لأنه إذا كانت رحمة الله وهي صفة من صفاته مخلوقةً بنصّ هذا الحديث، فإن باقي صفاته مخلوقة قياساً عليه.

فإذا أردت أن تتأول له الحديث، على ضوء الآيات والأحاديث الصحيحة الأخرى، التي تثبت أن صفات الله ليست مخلوقة، سوف يقول لك: انت تستخدم التأويل، وتضع للحديث معنىً يخالف ظاهره.

فلا يسعك عندئذ إلا أن تعذره بقوة الشبهة، ومن لا يعذر الناس عندما تتوفر دواعي الإعذار المقبولة شرعا وعقلا، فلا خير فيه.

وباب الصفات نستطيع أن نجعله حالةً استثنائية، لما قدّمت لكم من أن الشبهة فيه قويّة، كون هناك من الىيات والأحاديث ما يحتمل ظاهرها قول المعطلة.

وهذا إنما يكون في المقلدين، أما من أسّس هذه البدعة أي بدعة التعطيل أول الأمر، وانتصر لها، أو من علم الحق فيها وأعرض، فلا عذر له، والحجة قائمة عليه.

إلى هنا يكفي في إقامة الحجة على المخالفين.

ولكن إن زدت على ذلك، أن تنقل له فتاوى أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين، للاعتضاد لا للاعتماد، كان أمراً حسناً، وقويت الحجة على المخالف.

وإن كان المخالف قد كُذِب عليه، فنُسِب لأئمة السنة من البدع ما لم يبتدعوه، ومن الأقوال ما لم يقولوه، وجب عليه بيان كذب هذه الروايات، وأنها موضوعة عليهم وليست من قولهم، ويأتي من أقوالهم المسندة بالأسانيد الصحيحة والمقبولة ما ثبت أنهم عليه من اتباع الكتاب والسنة، والعقدية الصحيحة في العقائد.

وبالتالي تكون الحجة قد قويت عليه أكثر فأكثر.

فإياكم أن تنخدعوا بأقوال أهل البدع والزيغ والضلال.

لأنه ثمة من ينتسب إلى المدرسة السلفية، ويزعم أنه لو قرأ القرآن والسنة على المبتدعة والعصاة لم تقم عليهم بهما الحجة، بل زاد على ذلك بأن قال: بأنه حتى لو كشفت عنهم الشبه لا يزالون معذورين بالجهل أو الاجتهاد! 

فعند هؤلاء الضلّال، لا تقوم الحجة على المخالف حتى تقوم ناقة صالح.

وباختصار فإن القرآن والسنة كافيتان في إقامة الحجة على المخالف، وتزداد الحجة قياماً على المخالف، بكشف الشبهة عنه.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.

التهويل من التكفير

 سبق وأن تحدثت عن مسائل التكفير، ولكن هنا تنبيه هامّ لا بدّ منه، وهو:

أني لم أجد النبي صلى الله عليه وسلّم حذّر من شيء كما حذّر من التكفير بغير حقّ.

فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما".

رواه البخاري.

وروي عن أبي هريرة مثله.

وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يرمى رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك”

رواه البخاري.

وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لعن المؤمن كقتله, ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به في الآخرة, وليس على رجل مسلم نذر فيما لا يملك, ومن رمى مؤمنا بكفر, فهو كقتله".

رواه البخاري.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ ) ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: ( بَلِ الرَّامِي )" .

رواه البخاري في التاريخ الكبير والبزار في مسنده.

بينما لم أجد النبي حذّر من الحكم على شخصٍ كافر بالإسلام.

فلإن يخطئ أحدنا في الحكم بإسلام رجل وقع في الكفر، خيرٌ له من أن يخطئ في الحكم على رجل مسلم بالكفر.

وأنا لا أقول: كونوا مرجئة، ولا أقول: أحكموا بإسلام من ثبت كفره!

ولكن بعض مسائل التكفير واضحة وضوحاً لا لبس فيه، حتى أن الصبي يستطيع الحكم فيها.

ككفر المشرك المدعي للإسلام، وكتارك الصلاة بالكلية.

فهذه مسألة واضحة، ورد النص الشرعي بالبتّ فيها.

بينما بعضها خفيّ، ويحتاج إلى تمعّن وتبصّر وتشدّد قبل البتّ في الحكم فيه.

لأن التكفير فيها قائم على الرأي.

والمدرسة السلفية ابتليت بطائفتين: المرجئة والخوارج،

فالمرجئة هم: الجامية.

بينما السرورية جمعت بين مذهبي المرجئة والخوارج.

ونشأت من ضئضي السرورية، جماعة كفرت الجامية والسرورية ايضاً.

فالمرجئة جرتهم بدعتهم حتى حكموا باسلام المشركين الذين وقعوا في شرك الروبية والألوهية، واسموهم مسلمين متلبسين بشرك، 

وحكموا بإسلام الملحدين القائلين بأن الله حالٌّ ومتّحدٌ مع خلقه، مع أنهم مشركون، 

بأعذار وضعوها لهم، بعضها حق، ولكنهم وضعوها في غير مواضعها، وبعضها باطل بنصّ القرآن والسنة!

والخوارج أوقعوا الكفر على من يستحق ومن لا يستحق، 

حتى كفر بعضهم بالتسلسل، 

وحتى بلغ ببعضهم الأمر، أن كفروا أئة السنة أحمد والشافعي ومالك، بروايات مكذوبة عليهم، 

ثم هم أساساً لم يتعلموا بأن بعض الأقوال كفر إلا من هؤلاء الأئمة الكبار، 

فارتدوا عليهم يكفرونهم بأدنى الشُبّه. وكأنهما يبحثون عن شيء يكفرونهم به!

عته وسفه، وذهاب عقلٍ، وعمى بصيرة.

فالمسلم السُنّيّ يتبع الكتاب والسنّة، والعقل الصحيح والفطرة السليمة، 

وما أوضح مسألة التكفير وأبينها لمن أراد الحق فيها، وتجنب العبودية للهوى، وشفاه الله من مرض القلب، والعته والسفه وذهاب العقل وعمى البصيرة!

والتكفير أمرٌ قد انتشر بين المذاهب، حتى المبتدعة، فكل فرقة يكفر بلعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ليس هذا حكراً على المنتسبين للمدرسة السلفية!

وإن كان أهل السنة والجماعة (السلفيون حقاً وصدقاً، لا شراذم المرجئة والخوارج) يُكفِّرون، فإنما يكفرون من كفره الله ورسوله، بالدليل الشرعي.

بينما أهل البدع والفرقة، يكفرون غيرهم، لمجرد أنه خالف أرائهم وأهوائهم.

نسأل الله العافية والسلامة.

فعلى المسلم أن يكون حذراً في مسائل التكفير أشدّ الحذر، وأن لا يكفِّر إلا في أمرٍ واضح جليّ.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

الأربعاء، 24 يناير 2024

مسألة تكفير من لم يكفر الكافر

في هذه الحلقة إن شاء الله سوف نتكلم عن مسألة تكفير من لم يكفر الكافر.

وهذا الحكم، وهو تكفير من لم يكفر الكافر، أطلقه بعض أئمة السنة المتقدمين، ويريدون بالكافر هنا: الجهمية ومن لفّ لفيفهم.

وهذه المسألة وقع حولها شغب كثير وخلاف كبير.

فمن الناس من رفضها وابطلها.

ومن الناس من طغى في الحكم بها، فبلغ به الأمر أن كفر بالتسلسل، فكفر الجهمي، وكفر من لم يكفّره، وكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر، وكفر من لم يكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر .. إلخ.

ومن الناس من قال نقف عند ما وقف عليه السلف، وهو تكفير من لم يكفر الكافر، ولا نتجاوز ذلك، فلا نكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر.

ولعلّي هنا إن شاء الله أبيّن لكم حقيقة الأمر وجليّته، في هذه المسألة.

فأقول مستعيناً بالله وحده، ومتوكلاً عليه، ومفوضاً إليه أمري كله.

أن القول بتكفير من لم يكفر الكافر ليس قولاً مجمعاً عليه من أئمة السنة، ومن زعم ذلك فقد كذب.

فقد روى البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ما نصّه: "قال أبو عبد الله: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"" اهـ

فهذا الإمام أحمد لم يكف رمن لم يكفر الكافر، بل اكتفى بالحكم بجهله.

وهذا الإمام البخاري، ينقل ذلك عن الإمام أحمد متابعاً له وموافقاً له.

فهذان إمامان من كبار أئمة السنة، لا يكفران من لم يكفر الكافر.

فيظهر لنا وبجلاء، أن مسألة تكفير من لم يكفر الكافر، ليست مسألة مجمعاً عليها، بعضهم كفر وبعضهم لم يكفر.

والصواب مع من لم يكفّر، لأن من لم يكفر إنما احتاط للأمر حيطته، لأن من لم يكفر الكافر، إنما خفيت عليهم الحكمة من تكفيره، كونه يدعي الإسلام، ويظهر شعائر الإسلام.

وإذا ثبت أن الجهمي نفسه لا يكفر إن كان جاهلاً حتى تقام عليه الحجة، كما نقل عن بعض السلف، بمعنى أن الجهمي لا يكفّر إلا بعد ثبوت إدانته، وإعراضه عن الحق، فكيف بمن لم يكفره! الذي لم يجمع أئمة السنة المتقدمين أنفسهم على تكفيره، هذا أبعد عن الكفر.

وأيضاً لنفترض أن رجلاً عاش في بيئة صوفية وثنية أو شيعية وثنيّة، ولكن هذا الرجل، لصِحَّة عقله، وسلامة فطرته، لم يقبل الشرك الذي عليه قومه، وهو يرى علماء قومه وأهل بلده يفتون بجواز الشرك، وأنه قربة إلى الله، وأنه ليس الشرك الذي نهى الله عنه، كما هي عادة أهل الباطل في التلبيس والتدليس على الناس.

فهذا الرجل، لم يستسغ هذا الشرك، وهو يرى فيه شبهاً من شرك المشركين، ولكن لجهله، لم يتبين له أن فاعل ذلك مشرك شركاً أكبر، وخارج من الإسلام، فلم يحكم بكفر قومه، ولا حتى ببطلان هذا العمل، ولكنه أبا أن يفعله، وقال: أنا لن أعبد إلا الله تعالى، وحده لا شريك له.

فهل نقول عن مثل هذا بأنه كافر لأنه لم يكفر الكافر؟

والجواب: بالنسبة لي هذا ليس بكافر، بل مسلم موحِّد، لأنه جاء بالتوحيد وآمن به، وهو الشرط الذي اشترطه الله علينا للنجاة من النار.

ولذلك أقول: أن قول أئمة السنة المتقدمين : "من لم يكفّر الكافر فهو كافر" لا بد أن يكون لها ضابط يضبطها، وبعد تمعّنٍ طويل في هذه المسألة، رأيت أنها لا تنطبق إلا على من توفَّر فيه شرطان:

الشرط الأول: أن لا يكون جاهلاً، ولم يهتد إلى الحق في هذه المسألة، ولم يبيّن له أحد، وأن تقام عليه الحجة، ببيان الأدلة الشرعية، في أن ما يقوم به الكافرون ممن يدعون الإسلام هو الكفر الأكبر، وأنهم كفّار بذلك.

والشرط الثاني: أن لا يعتقد بعد البيان بأن هذه الأعمال الكفريّة كفر، أي: يرى أنها من الإسلام، وأنها مشروعة، وإن زعم بعد بيان الأدلة بأن هذا العمل ليس كفراً أكبر، فهو معاند، وحكمه حكم الكافرين، لأنه يجيز الكفر الأكبر مع علمه ببطلانه.

فإن اختّل أحد الشرطين، لم يحكم على من يكفر الكافر بأنه كافر. 

بل يحكم عليه بأنه ضال.

ومثال ذلك: أن رجلاَ جاهلاً، قال: أنا لا أعلم هل هذا الفعل كفرٌ أكبر أم لا، وهل هو مشروع أم لا، ولكن ظنّي أنه ليس بمشروع، وهو يشبه فعل الكفار، ولا أحكم على من فعل ذلك بالكفر، وأنا لا أفعله، ولا أقول به، ولا أعتقده، وسوف ألتزم بالتوحيد.

فهذا نقول لا يكفر لأنه لم يكفر الكافر، لأنه جاء بالتوحيد، مع جهله بحقيقة حال هؤلاء القوم، وأن الشرك الذي هم واقعون فيه هو الشرك الأكبر ، وأنه من جنس الشرك الذي وقع فيه مشركو العرب قبل الإسلام.

ومثال أخر: لو أن رجلاً قال: أنا أعلم أن ما يقوم به الشيعة والصوفية من عبادة غير الله كفر أكبر، ولكني أتورّع عن تكفيرهم لأني أجدهم يشهدون الشهادتين، ويقومون بأركان الإسلام الخمس.

فهذا نقول لا يكفر لأنه لم يكفر الكافر، فقد أقر بأن ما عليه القوم كفر أكبر، كما أنه جاء بالتوحيد، الذي هو شرط النجاة يوم القيامة بإذن الله تعالى.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.

مسألة تكفير من أنكر شيئاً من اركان الإيمان

وأركان الإيمان ستّ وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الأخر وبالقدر خيره وشره.

فأما من لم يؤمن بالله، فهذا ليس بمسلم ابتداءً.

وأما من ادعى الإسلام، وأنكر شيئاً من أركان الإيمان الخمس، فأنكر الملائكة أو أنكر أن هناك كتاباً لله غير القرآن، ولو أنكر كتاباً واحداً مما نصّ الله عليه في القرآن، أو أنكر رُسُل الله تعالى، أو واحداً منهم، ممن ذكرهم الله في القرآن، أو أنكر البعث واليوم الأخر، أو أنكر القدر.

فهذا إن كان جاهلاً، فهو معذور بالجهل، فإن اقيمت عليه الحجة، من الكتاب العزيز والسنة النبوية، فأصرّ على قوله، فهو كافر كفراً أكبر.

لأنه مكذّبٌ بالقرآن، والمكذِّب بالقرآن كافر كفراً أكبر ينقل عن الملة.

والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡض وَنَكۡفُرُ بِبَعۡض وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ سَبِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حَقّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابا مُّهِینا﴾ [النساء]

وقوله: (حَقَّا) تأكيد للحكم عليهم بالكفر الأكبر، عياذاً بالله من الضلال.

مسألة كفر من ترك باقي أركان الإسلام وشرائعه

وأما باقي أركان الإسلام، وهي: الزكاة والصيام والحج، وباقي شرائع الإسلام، وهي: كل ما أمر الله عز وجل به أو نهى عنه، في كتابه العزيز.

فجميع هذه الأمور، لا يكفر فيها المخالف إلا بعد بلوغه الحجة مع استحلاله للمخالفة فيها، أو انكار أن الله تعالى أمر بها.

فإن كان جاهلاً لا علم له بالحكم الشرعي فيها، فلا شيء عليه.

وإن أقيمت عليه الحجة من كتاب الله عز وجل، وخالف في ذلك، بترك ما أُمر به أو عَمَلِ ما نُهي عنه، مع اقراره أنه مخطئ، ولكن ما أوقعه في المخالفة إلا الكسل أو ضعف النفس وغلبت الشهوة في ترك ما أُمر به أو عمل ما نُهي عنه، فهذا لا يكفر الكفر الأكبر، بل هو عاص، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.

والدليل على ذلك، هي الأدلة التي سقناها في حكم تارك الصلاة، فإن الشارع لم ينصّ إلا على تارك الصلاة، واستثنى ما عداه، فدل على أن باقي أركان الإسلام وشرائعه، لا يكفر المخالف فيها الكفر الأكبر، إلا بعد الاستحلال أو إنكار أنها فرض من الله تعالى.

والسبب في كفره، أنه مكذب بالقرآن الكريم، والمكذّب بالقرآن كافر كفراً أكبر.

هذا فيمن خالف القرآن الكريم.

وأما السُنّة، فهي نوعان:

سنة تواتر عليها العمل، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، تواترت بين العلماء والعوام، مثل: طريقة أداء الصلاة، ومقدار الزكاة، وطريقة الصوم، وطريقة الحج.

فهذه من خالف فيها كافر، لأنه لا يخالف فيها أساساً، إلا عابث ماكر محتال، يريد أن يُشغِّب على الناس ويفسد عليهم دينهم.

وسنة يرويها الواحد، ولم تعرف إلا من النقل عن الرواة، يعرفها البعض ويجهلها الأخرون، فإن أنكر المنكِر شيئاً منها، لعلّة بيّنة في الحديث، فلا يكفر، ولكن إن كان الدافع له، لإنكار الحديث هو لأن الحديث يخالف هواه، فهذا حكمه حكم من كذّب بالقرآن الكريم.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

الثلاثاء، 23 يناير 2024

كفر تارك الصلاة

مسألة تارك الصلاة، من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم، هل يكفر تارك الصلاة الذي لم يستحل تركها أو لم ينكر أنها فرض من الله تعالى، أم لا يكفر؟

مع إجماعهم، على أن من ترك الصلاة جاهلاً بأنها فرض من الله تعالى، لا يكفر. لأن الصلاة ليست من المسائل التي تثبت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، بل تثبت بالخبر عن الله أو عن رسوله.

وإجماعهم، على أن من تركها استحلالاً لتركها، أي يقول: يحلّ لي أن لا أصلي، وليس عليّ في ذلك إثم، وزعم أنها ليست فرضٌ من الله تعالى، وبعد بلوغه الحجة بأنها فرض من الله تعالى، فهو كافر كفراً ينقل عن الملّة، والسبب في تكفيره، أنه مكذِّب بالقرآن وصحيح السنة النبويّة.

لكن الخلاف، فيمن تركها عامداً عالماً بأنها فرضٌ من الله تعالى، ولكنه لم يستحل تركها، ولا أنكر أنها فرض من الله بعد بلوغه الحجة، وإنما تركها تهاوناً وكسلاً.

فلما رأيت ذلك، أزمعت أن أجمع ما روي في هذا الباب، ثم استنباط الحكم من الأدلة الشرعية مباشرة، ودون واسطة.

فأقول مستعيناً بالله وحده:

عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".

صحيح.

عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة".

صحيح.

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أن النبي ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"

صحيح.

قلت: وحشر النبي صلى الله عليه وسلم لتارك الصلاة في زمرة قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، دليل على أن كفره من جنس كفرهم، وهو الكفر الأكبر، وإلا لكان محشوراً مع غيره من عصاة المسلمين، الذين سوف يلجون النار، لو كان تركه للصلاة ليس كفراً أكبر.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار"

صحيح

قلت: وفي هذا الحديث، يتبيّن لنا، أن تارك الصلاة حلال الدم، لأنه على قول من قال بأن الشهادتين تكفي في الحكم على العبد بالإيمان والإسلام، لما أغار النبي صلى الله عليه وسلم، بمجرد أنه لم يسمع الأذان، ولبعث إليهم يسألوهم: هل يشهدون الشهادتين أم لا!

وعن عثمان بن أبي العاص، أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يحشروا، ولا يعشروا، ولا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكم أن لا تحشروا، ولا تعشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع».

حديث صحيح.

فلم يرخّص النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف أن يدعوا الصلاة، مع أنه رخّص لهم في ترك الجهاد والزكاة، تألُّفاً لهم، وقد قدّر النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم بعد أن يألفوا الإسلام، سوف يجاهدون ويزكّون.

وعن المسور بن مخرمة، أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". فصلى عمر، وجرحه يثعب دما.

صحيح.

وعن عبدالله بن مسعود قال: "من لم يصلّ فلا دين له".

صحيح.

قلت: وهذا فيه بيان جليّ، على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود، يريان كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وهذا يعضد القول، بأن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، محلّ إجماع من الصحابة.

وعن عبدالله بن شقيق رحمه قال: "كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".

وفي رواية عند الخلّال: "ما علمنا شيئاً من الأعمال قيل تركه كفر إلا الصلاة".

وقوله: "ما علمنا" يريد به نفسه ومن عاصره من زملائه من التابعين، ومشايخه من الصحابة رضوان الله عليهم، فلو كان هناك خلاف في تارك الصلاة لعلمه.

ويشهد على كفر تارك الصلاة، أن الله تبارك وتعالى لم يأذن لأحد بتركها، وإن كان على فراش الموت، حتى لو يومئ لها إيماءً ويصلِّي إشارةً. ولم يرخّص لأحد في تركها، كما رخّص في الزكاة والصيام والحج.

فجعل الصلاة صنو التوحيد. فكما أن التوحيد لا يرخّص لأحد في تركه، فكذلك الصلاة، لا يرخّص لأحد في تركها.

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، حكم بأن قتال المسلم كفر، وبأن شرب الخمر كفر، مع أنه يريد بذلك الكفر الأصغر.

فالجواب: تلك الأحكام، ورد في الشرع ما بيّن أن المراد بالكفر فيها هو الكفر الأصغر، ولم يرد مثل ذلك في شأن الصلاة، فالحكم على ظاهره، بل إن سياق الأحاديث يقطع بأن المراد بالكفر والشرك هو الكفر والشرك الأكبر.

فثبت بذلك، أن من لا يصلي أو كان أكثر وقته لا يصلي، لان حكمه حكم من تركها إطلاقاً، فهو كافر كفراً أكبر ينقل عن الملّة، مستحلّاً كان أو غير مستحلّ، لان النصوص الشرعية لم تقيّد هذا الحكم أو تخصّصه، ويستتاب، فإن تاب وإلّا ضربت عنقه على الرِدّة.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة، ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فان الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".

فهذا حديث ضعيف الإسناد، ولكن ضعفه يسير، وقد رواه أحمد بن حنبل، ولم يأخذ به كثير من أئمة السنة وحكموا أن من ترك صلاة واحدة فقط خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعليه التوبة وتجديد إسلامه، والأخذ بالحديث الضعيف ضعفاً يسيراً خيرٌ من أراء الرجال.

وفي هذا الحديث، دليل على أن من كان أكثر وقته يصلّين ولكن يدعها أحياناً تهاوناً وكسلاً، أنه لا يكفر، بل هو عاصِ ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.

وبعض أئمة السنّة غلا حتى قال من تركها حتى يخرج وقتها من غير عذر فهو كافر! وهذا باطل ترده النصوص الشرعية.

والدليل على ذلك:

عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة".

رواه مسلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".

رواه مسلم.

وقوله: "ويخنقونها إلى شرق الموتى" استظهر بعضهم أن المراد بذلك، أنهم يؤخرونها عن وقتها المختار، لا أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها.

والجواب: أن وقت الصلاة المختار، هو ما حدّده النبي صلى الله عليه وسلم في ما روي عنه من الأحاديث، فلو كانوا يؤخرونها إلى أخر وقتها، لما كان عليهم في ذلك لوم ولا إثم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وابن مسعود أن يصلوا منفردين في بيوتهم في وقت الصلاة، ثم يصلوا مع أولئك الأمراء، ويحرمهم فضيلة صلاة الجماعة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يؤخر الصلاة أحياناً لآخر وقتها.

فهذه العبارة، إن كانت من قول النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فله معناً غير ما ذكره الشرّاح.

والراجح عندي، أن هذه العبارة، زيادة من ابن مسعود، لانه لم يتخيّل أن ياتي قوم يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، لذلك ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنهم يؤخرونها عن أوّل وقتها إلى أخره، لذلك زاد ابن مسعود هذه العبارة في الحديث، كشرح لمراد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كما ظن ابن مسعود.

والدليل على ذلك، أن هذه الزيادة لم ترد في حديث أبي ذر، بل ما ورد في حديث أبي ذر، يثبت أن المراد، أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها بالمرّة، وهذا دليل أخر، على بطلان هذه الزيادة في حديث ابن مسعود.

فحديث أبي ذر وحديث ابن مسعود، يثبت أن مؤخري الصلاة عن وقتها حتى يخرج وقتها كفاراً، لما صحّت الصلاة خلفهم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة خلف كافر، بل لنهاه عن ذلك، وأخبرهم بأنهم ارتدوا عن الإسلام.

وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما قال: "من قال أصلي غداً فهو أكفر عندي من حمار".

بل إن إسحاق بن راهوية تمادى، عندما قال: "قد صح عن رسول الله أن تارك الصلاة كافر" ثم قال: "وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر، حتى يذهب وقتها؛ كافر". 

فقوله: أنه صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وأن هذا رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومه، صحيح. 

وأما قوله: "حتى يذهب وقتها كافر" فهذا الخطأ البيّن، والقول الذي لا أساس له من الصحة، وقد بيّنت الأحاديث الدالة على بطلان هذا القول. 

بل إن الإمام الشافعي، صرّح في كتابه الأم، بأنه ليس بكافر، فقال: "لو أن رجلاً ترك الصلاة حتى يخرج وقتها كان قد تعرض شراً إلا أن يعفو الله".

فقول الشافعي: "إلا أن يعفو الله" دليل على أن تارك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها، ليس بكافر عنده، بل هو عاص، وتحت مشيئة الله تعالى، فتبيّن بذلك بطلان قول ابن راهوية، في ادعاءه الإجماع على ذلك.

فهذه أدلة على أن من أخر الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وإن كان متعمداً.

وقد احتج بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بالكليّة، بأحاديث:

أولها: حديث عبادة بن الصامت قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة"

صحيح.

قلت: وهذا الحديث بهذا النص سقط منه حرف، يدل على هذا ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها أحمد وأبو داؤد جاء فيها ما نصه: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ".

فقوله: "لم يضيع منهن شيئاً". وقوله: "مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ". ليس المراد به تارك الصلاة، وإنما المراد به من انتقص من شروطها أو أركانها أو واجباتها، فذلك عاصٍ مستحقٌ للعقوبة، كما أن في هذا الحديث دليل على أن من أخر الصلاة عن وقتها، فليس بكافر، إنما هو عاصٍ، خلافاً لمن قال بكفره من أئمة السنة.

والثاني: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها فقال له صلة - رجل من أصحاب حذيفة - : ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا".

قلت: والجواب: أن هذا الحديث إنما يعني طائفة مخصوصة في وقت مخصوص، قومٌ جهّال، لم يرثوا عن أسلافهم من العِلم، سوى كلمة التوحيد، فهو يقولونها ويؤمنون بها ولا يشركون مع الله إلهاً أخر، والأحاديث السابقة الواردة في كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، دلّت على هذا المعنى في هذا الحديث.

والثالث: حديث أبي سعيد الخدري في الشفاعة، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" .. الحديث.

قلت: والجواب في هذا الحديث، كالجواب في سابقه، قومٌ جهّال، لم يرثوا عن أسلافهم من العِلم، سوى كلمة التوحيد، فهو يقولونها ويؤمنون بها ولا يشركون مع الله إلهاً أخر، وهم مع هذا أهل معاصٍ وآثام وذنوب كثيرة، فغيرهم، وإن كان أهل معاصٍ وآثام وذنوب كثيرة، إلا أن لهم أعمال صالحة عجّلت بخروجهم من النار، وهؤلاء ليس لهم أعمال صالحة، فكانوا أخر من أُخرِج من النار.

نعوذ بالله من غضبه وعقابه.

وبهذا لا يكون هناك تعارض بين الأحاديث، بل هي متّفقة مؤتلفة، والجمع بينها متيسّر. 

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله اعلم وأحكم.

الاثنين، 22 يناير 2024

كفر المعطِّلة والمُمَثِّلة

باب الصفات من أعقد الأبواب في مسألة التكفير.

وذلك لسببين:

الأول: أن التكفير فيه قائم على الرأي، لأنه لا يوجد نصّ صريح في كفر المعطلة أو الممثِّلة، كما هو الحال في تكفير المشرك.

والثاني: أن الصفات ليست على درجة واحدة في الحكم، فتجد العلماء يختلفون في تقدير الحكم على كل صفة، بناء على ما يرى هو من مدى خطورة المخالفة فيها.

وهناك معضلة أخرى.

وهي أني وجدت بعض من وقع في الشرك الأكبر والإلحاد في صفات الله تعالى، قد رجع عن الشرك، واقر بتوحيد الربوبية والألوهية، وفاء إلى الحق فيهمان ولكن بقيت عقدة التعطيل ملازمة له، ظناً منه أن التعطيل تنزيه لله تعالى عن صفات النقص، لأنه تأثر بأقوال المتكلمين من جهة، ولأنه يجد بعض الآيات والأحاديث تفيد هذا المعنى، ولم يهتد إلى تأويلها الصحيح، الموافق للغة العرب.

منهم المقريزي والشوكاني وشريعت سنكلجي والبرقعي، وغيرهم.

فقلت: لعل الله تبارك وتعالى لم يهدهم إلى الحق في باب توحيد الربوبية والألوهية، إلا وهو يريد بهم خيراً، وإن ضلّوا في باب الصفات.

ولذلك اجتهدت وِسْعِي في معرفة الحدّ الذي يكفر به العبد لو خالف في باب الصفات، فإن أصبت فالحمد لله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله واتوب إليه.

فأقول مستعيناً بالله وحده لا شريك به.

أن هناك صفات متعلّقة تعلُّقاً مباشراً بتوحيد الربوبية والألوهية، وهي:  الحياة والملك والخلق والأمر والتدبير والحِكمة والعِلم والقوّة والقُدرة والإرادة.

فهذه الصفات، حكمها حكم توحيد الربوبية والألوهية، لا عذر فيها البتّة.

فالإنسان بعقله الصحيح وفطرته السليمة، يدرك أن له رباً، وهذا يستلزم إثبات صفة الحياة لله تعالى، وأنه مالك الكون وخالقه، وهذا يستلزم منه إثبات صفة الملك والخلق له، وعندما يدعو الله تعالى، يستلزم أنه مؤمن بأن الله تعالى يعلم بدعائه، وإن لم يعتقد بأن الله يسمع صوته ويرى صورته، ولكنه مؤمنٌ بأن الله يعلم بحاله بطريقة ما، وإلا لم يكن ليدعوه أصلاً، وهذا يستلزم إثبات صفة العِلم، وأن الله هو الآمر والمدبِّر في هذا الكون، وهذا يستلزم إثبات صفة الأمر والتدبير والحكمة لله تعالى، وإيمانه بأن الله تعالى يقوى ويقدر على إجابة دعائه، يستلزم إثبات صفة القوة والقدرة، وإيمانه بأن الله قد يستجيب دعاءه يستلزم إثبات صفة الإرادة.

فثبوت هذه الصفات، أمرٌ فطري.

فمن جحد صفة من هذه الصفات ونفاها عن الله تعالى، فهذا كافر كفراً أكبر، وإن لم تقم عليه حجة، لأنه بنفيه لها، لم يقر بتوحيد الربوبية والألوهية.

وأما صفة العلو، فمع أنه أمرٌ فطري، إلا أن نفيها عن الله عز وجل، ليس شركاً، ولا يلزم منه وقوع العبد في الشرك، ولذلك لا يكفر المخالف في هذه الصفة، إلا المعرضين، الذين عرفوا الحق في هذه المسألة وأعرضوا عنه، كِبراً وعصبيّة لمشايخهم وأصحابهم ومذهبهم الذي يعتنقونه.

وباقي الصفات حكمها حكم صفة العلو.

فكل من عطّل صفات الله تعالى، عدا الصفات المتعلِّقة تعلُّقاً مباشراً بتوحيد الربوبية والألوهية، فهو معذور بالجهل، ما لم يكن عالماً بالحق، معرضاً عنه. 

فإن قيل: أن لازم قول المعطلة هو نفي وجود الله تعالى؟

فالجواب: أن لازم قول المعطِّل ليس بلازم، لأنه لم يلتزمه، بل هو مقرُّن بوجود الله تعالى. 

ثم المعطِّلة على قسمين:

قسم يقول بأن الله في كل مكان.

وقسم يقول بأن الله بلا مكان ولا يعرف له مكان.

فأما أصحاب القول الأول، إن أرادوا بقولهم ذلك، أن الله تعالى متّحدٌ وممتزجٌ بخلقه، كما يتحد ويمتزج الملح في الماء، فكفّار، قولاً واحداً، لأنه لا يقول بهذا القول إلا مشرك في توحيد الربوبية واللوهية، لأنه يدعي أن الله حال في كل شيء، وبالتالي يجيز عبادة كل شيء.

وأما إن أرادو بقولهم هذا، أن الله تعالى في كل مكان من غير اتحاد في الأشياء أو امتزاجٍ بها، فهؤلاء لا يكفرون، بل هم مبتدعة ضالّون، وحكمهم، حكم من يقول بأن الله بلا مكان ولا يعرف له مكان، وحكمهما أنه معذور بالجهل، حتى يتبيّن منه معرفة الحق والإعراض عنه.

مع أن جميع القائلين بأن الله في كل مكان، يقولون بالاتحاد، وواقعون في الشرك الأكبر، فيما أعلم، ودعوى وجود من يقول بأن الله في كل مكان دون حلول أو اتحاد، هي مسألة افتراضيّة فقط.

والسبب في توسيع العذر للمعطلة، هو أن هناك آيات وأحاديث، قد يوافق ظاهرها قول المعطلة، كما أن كتب اللغة العربيّة قد عبث بها المتكلمون، فحرفوا في معاني بعض الكلمات، التي تخالف معتقدهم، كتحريفهم لمعنى استوى باستولى، ولذلك كانت الشبهة حقاً في هذه المسألة قويّة، فلم يكفر بها سوى من عرف الحق وأعرض عنه.

وللتنبيه، أن وجود معطِّل موحِّد في الربوبية والألوهية، هو شيء نادر، وحالة شاذّة، فالسائد في المعطلة أنهم مشركون، وهذا غالبٌ عليهم، ولذلك تجد أكثر المتكلمين، صوفية قبورية، ورافضة قبورية.

هذا في شأن المعطلة.

أما المُمَثِّلة، فيعرفون بالمُشَبِّهة، وهي تسمية خاطئة، والصواب أن نسميهم بما سماهم الله تعالى به، وهم: الممثِّلة، كما قال تعالى: ﴿ .. لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱ .. ﴾ [الشورى ١١] ثم إن الشبهة واقع بين صفات الله تعالى وصفات خلقه عز وجل. فالتشبيه حق لا مرية فيه، ولا يماري فيه إلا الزائغون.

والممثِّلة قسمان:

قسم يمثّل صفات المخلوقات بصفات الله تعالى من حيث الكمال، وهذا لا يقع إلا ممن وقع في الشرك الأكبر. بحيث يرى أن المخلوق سواء كان نبيا أو جنيّا أو ملاكاً أو حجرا أو شجرا، قادر على لاكل ما يقدر عليه الله تعالى. فيصرف له الدعاء والذبح والنذر والصدقة، فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

وقسم يشبٍّه صفات الله تعالى بصفات خلقه من حيث الكمال، بحيث يجعل صفات الله كصفات الخلق، بما فيها من نقص، وهذا الصنف، على قسمين: 

قسم يشبه صفات الله تعالى بصفات خلقه من جميع الوجوه، دون أدنى تفريق بينها في الكمال، وهذا ممن جعل لله تعالى مثلاء وأكفاء وأنداد، فهو مشرك شركاً أكبر. 

وقسم، يشبه صفات الله بصفات خلقه، بما فيها من نقصه، ولكن يجعل هناك فارق بين قوة الخالق سبحانه وقدرته، وبين قوة المخلوق وقدرته، وهذا الصنف معذور بجهله، لأن كمال صفات الله تعالى، لا تدرك بالعقل أو الفطرة، بل تدرك بالخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك حديث المحرِّق نفسه، وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

ففي الحديث الصحيح أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "قلت: مهما يكتم الناس، فقد علمه الله؟ قال - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - : نعم".

وفي بعض الروايات أنها قالت: "قلت: مهما يكتم الناس، فقد علمه الله، نعم" فجعل قول: "نعم" من كلام عائشة، كأن سؤالها سؤال تقريري. 

والذي عليه أكثر الروايات، أن قائل نعم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن سؤالها كان سؤال استفهام وتعجّب.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

كفر تارك التوحيد

بينت في حلقة: المسائل التي لا يعذر المخالف فيها، أن مسألة توحيد الربوبية وما يتضمنه من توحيد الملك وتوحيد الخلق وتوحيد الأمر والتدبير ومسألة توحيد الألوهية.

لأن هذه المسائل ثابتة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وبالتالي فلا يلزم في الحكم في المخالف فيها إقامة الحجة.

وقد ذكرت الأدلة على ذلك في حلقة: المسائل التي لا يعذر المخالف فيها. فأغنى عن إعادتها هنا.

فإذا علمنا ذلك، علمنا أن من خالف في توحيد الربوبية أو الألوهية، بمعنى أنه قدح في ربوبية الله أو ألوهيّته، 

فهو كافر كفراً أكبر، مخرج من الإسلام، وإن لم تبلغه حجّة، 

والدليل قوله تعالى في سورة النساء: (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)

فبناء على هذه الىية الكريمة، مع ما سبق أن أوردناه في عدم إعذار من وقع في شرك الربوبية أو الألوهية، علمنا أن من مات على الشرك فهو من أهل النار، خالداً مخلّداً فيها، سواء بلغته الحجة الرسالية أم لم تبلغه.

ومما يؤكدّ ذلك، أن الواقع في الشرك، لم ياتي بأصل أصول الدين، فكيف يكون من هذا حاله مسلماً.

ولو أدعى الإسلام، وصلّى وتصدق وصام وحج البيت الحرام.

فإن مجرد أدعاءه الإسلام، ونطقه للشهادتين، لا ينفعه حتى يأتي بمضمونها، ويعمل بمقتضاها، 

فلا يصحّ أن ينطق الشهادتين، وهو يزعم أن لله تعالى شريكاً في ملكه أو خلقه أو أمره وتدبيره، 

كما لا يصح أن ينطق الشهادتين، وهو يدعو مع الله غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل!

ومثال ذلك: لو أن سارقاً سرق فقيل له أنت سارق، فأنكر ذلك، وقال: أنا لست سارقاً، والسرقة حرام ولا تجوز. فهل مجرّد إنكاره للسرقة وإقراره بحرمتها، ينف يعنه كونه سارق؟ 

والجواب: بل هو سارق، وغن تظاهر بالإنكار والإقرار بحرمة السرقة.

فكذلك من أدعى الإسلام ونطق الشهادتين، لا ينفعه ذلك، ما لم يألأتي بمضمون الشهادتين ويعمل بمقتضاها.

وقد ذكرت سابقاًن أن أحاديث أهل الأعذار جميعها لا تصحّ أسانيدها، وهي مخالفة للقرآن الكريم والأحاديث الصحاح، فلا يعتدّ بها ولا ينظر فيها.

وأما صلاتهم وصدقاتهم وصيامهم وحجهم، فقد كان مشركو العرب قبل الغسلام، يصلون ويتصدقون ويصومون ويحجون، فلم ينفعهم ذلك شيئا.

وهاهم أحبار اليهود ورهبان النصارى ونسّاك الوثنيين، ما هناك أشدّ عبادة منهم، ةومع ذلك لا ينفعهم ذلك شيئاً مع ما هم فيه من الشرك الأكبر، عياذا باغلله من الضلال.

فكما أن أولئك لا تنفعهم الأعمال الصالحة التي يقدمونها، فكذلك المشركون المدّعون للإسلام، لا تنفعهم الأعمال الصالحة التي يقدمونها، إلا كما تنفع الأعمال الصالحة اليهود والنصارى والوثنيون، يُمتَّعون بهخذه الأعمال في الدنيا، ولا يكون لهم في الأخرة نصيب.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الخميس، 18 يناير 2024

مسائل التكفير

تكلمت في الحلقات السابقة عن المسائل التي يعذر فيها المخالف والمسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

وهذه المسائل، إنما يراد بها بيان من يستوجب العقوبة قبل قيام الحجة، ومن لا يستوجب العقوبة إلّا بعد قيام الحجة، فقط.

وليس المراد منها بيان من وقع في الكفر ومن لم يقع. 

فتلك مسألة أخرى.

ومسألة التكفير، واضحة في بعض المسائل وضوحاً يمكن للصبي أن يبتّ فيها، وذلك لوضوح الأدلة الشرعية بل والأدلة العقلية والفطريّة في بيان كفر المخالف فيها.

ولكنها في بعض المسائل خفيّة، وفيها نوع من التعقيد، وخاضعة للاجتهاد والرأي، لأنه لا يوجد نص صريح من القرآن أو السنة في البت في الحكم فيها، وإنما يبني العلماء حكمهم على مرتكبها بناء على مدى مخالفة بدعته للكتاب والسنة وأصول الدين، وأثر بدعته في الإسلام. 

وهذا عادة ما يكثر في المسائل التي يُحتاج فيها إلى إقامة الحجة، كما تعتمد على قوة الشبهة التي طرأت على المخالف، فبعض الشُبه قويّة، لأن في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نصوص متشابهات، يكون ظاهرها موافقاً لتلك البدعة، ولم يهتد المخالف إلى تأويلها الصحيح، من المحكم من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبر العلماء بنيّة الشخص في هذه المسائل.

ولذلك نجد أئمة السنة المتقدمين، أئمة أهل الحديث، السلف الأول، يختلفون في تكفير شخص، فبعضهم يقطع بكفره، وأخر يشك فيه، وبعضهم يفرق بين العالم والعامي، فيكفر العالم، ولا يكفر العامّي، والعامّي عندهم، هو من لم يكن متخصصاً في هذه المسائل.

والأمثله من كتب السلف كثيرة، لمن تمعّن فيها.

ولكن كما قلت سابقاً، إنما هذه في المسائل التي يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، لا في المسائل التي لا يعذر فيها المخالف بقيام الحجة، كون الحجة فيها هو العقل الصحيح والفطرة السليمة.

وهو ما سوف نبيّنه إن شاء الله تعالى.

ونشرع الآن في المقصود، فأقول مستعيناً بالله وحده لا شريك له.

أنني ذكرت سابقاً أن المسائل قسمين:

قسم لا يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة، وقسم يعذر فيه المخالف بعدم قيام الحجة.

فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف على قسمين: 

قسم يكفر فيه المخالف فور وقوعه فيها، وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وما يتعلّق بهاتين المسألتين من صفات الله تعالى.

وسوف نفرد هذه المسألة بحلقة مستقلة، نزيدها إن شاء الله بياناً ووضوحاً.

وقسم لا يكفر فيه المخالف، مثل: اللواط والزنا ونحوة ذلك، مما ذكرته سابقاً في حلقة: المسائل التي لا يعذر المخالف فيها. 

وهذا القسم، لا يكفر المخالف فيها، إلا أن يستحلّها، أي: يدعي أنها حلال عند الله تعالى، وبعد قيام الحجة عليها فيها بأنها محرَّمة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 

لأن حرمتها عند الله تعالى، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، وهذا فقط في حكمها عند الله، وأما في العقل الصحيح والفطرة السليمة، فهي محرمة قطعاً، والمخالف فيها مستوجب للعقوبة، دون أن تبلغه حجة.

فبما أن حرمتها عند الله ورسوله، لا تثبت إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فلم يكفر مستحلها، حتى تبلغه الحجة بذلك.

والسبب في كفره هنا، أنه مكذّب بآيات القرآن والأحاديث الصحاح المقبولة، وأقول المقبولة، لأن هناك أحاديث صحيحة الإسناد ولكنها باطلة المتن، ويحكم عليها بأنها شاذّة. والمكذب بآيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة المقبولة كافر، لأنه مكذّب لله ولرسوله.

وأما المسائل التي يعذر فيها المخالف، فهي على قسمين أيضاً:

قسم يكفر فيه المخالف بعد قيام الحجة، وإن لم يستحل المخالفة فيها، وهذا ينحصر في فريضة الصلاة، وسوف نفرد حلقة مستقلة إن شاء الله في مسألة كفر تارك الصلاة، ونورد الأدلة هناك.

وأيضاً، خمسٌ من أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الأخر والقدر خيره وشره. 

فهذه المسائل، يكفر المخالف فيها بعد قيام الحجة، وهذه المسائل ليس فيها استحلال، بل إنكار، وهو تكذيب للمُخبر، بما أخبر به.

وقسم لا يكفر فيه المخالف حتى بعد قيام الحجة، إلا بعد أن يستحل، وهذا في باقي أركان الإسلام الخمس، وهي الزكاة والصوم والحج. وباقي شرائع الإسلام من أوامرٍ أو نواهٍ إلهيَّة.

فهذه المسائل، لا يكفر فيها المخالف، إلا 




وسوف أبيّن كل ما سبق في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.



فالمسائل التي لا يعذر فيها المخالف، على قسمين:

القسم الأول: يكفر بها المخالف فور مخالفته فيها، وإن لم تبلغه حجة، لأن العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الحجة فيها، وهذا القسم ينحصر في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد الربوبية، وما يتضمنه من توحيد الملك وتوحيد الخلق وتوحيد الأمر والتدبير.

والقسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بالعبادة، وأهمها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وما يتعلّق بها من الذبح والنذر والصدقة.

والدليل في هذين القسمين، قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)

وقد ذكرت في المحاضرة السابقة والتي بعنوان: المسائل التي لا يعذر فيها المخالف. الأحاديث النبوية الدالة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية، وإن لم تبلغه حجة، فأغنى عن إعادتها هنا.

والقسم الثالث: صفات الله تبارك وتعالى المتعلقة بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتي في عدم الإيمان بها وإثباتها لله عز وجل، قدح في ربوبيته أو ألوهيته، وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والملك، والخلق، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.

والأدلة على كفر من عطّل هذه الصفات، هي الأدلة على كفر تارك توحيد الربوبية والألوهية.

وأنبه هنا: أني في الحلقة السابقة بعنوان: المسائل التي يعذر فيها المخالف، ذكرت الصفات التي لا يعذر فيها المخالف، ولكني نسيت أن أذكر الحياة والملك، ولذلك استدركتها هنا.

وأما صفة العلو الذاتي، مع أنها ثابتة بالفطرة، إلا أنه إذا شبّه على المسلم فيها، ولبّس عليه، وكان تعطيله لها ناشيء عن جهل وقوة شبهة، وليس عن كِبر وتعصب واتباع للهوى، فأرجوا أن المسلم لا يؤاخذ بها.

والسبب أن نفي هذه الصفة قد لا يكون من القدح في ربوبية الله وألوهيته، إذا كان العبد مقراً بربوبية الله وألوهيّته.

وقد رأيت أناساً كانوا على الشرك الأكبر والإلحاد في صفات الله تعالى، ثم تابوا عن الشرك وفاءوا إلى الإسلام، ولكن بقيت عقدة التعطيل عندهم ملازمةً لهم، ظناً منهم ألأن هذا تنزيه لله تعالى وتقديس له، منهم: المقريزي والشوكاني وشريكت سنكلجي والبرقعي وأمثال هؤلاء، فقلت: لا أظن الله تبارك وتعالى هداهم إلى توحيده في ربوبيته وألوهيته بعد ما كانوا عليه من الشرك، إلا وهو يريد بهم خيرا، والله أعلم.

وباقي صفات الله تعالى مثل صفة العلو، فإن كان ضلال المسلم فيها ناشئ عن جهل وقلّة بصيرة، وشبهة قويّة عرضت له، ولم يكن إعراضه عن إثباتها كِبرٌ على الحق، وتعصب للباطل، واتباع للهوى، فأرجو أنه معذور غير مأزور.

فرؤوس المعطلة احتجوا بآيات وأحاديث يشتبه على السامع أمرها، كقوله تعالى: (وهو معكم اينما كنتم) وقوله: (وهو اقرب إليه من حبل الوريد) والحديث الذي رواه أحمد وغيره، من أن الله خلق الرحمة. فنصّ على أن الرحمة مخلوقة، ففرحوا بهذا الحديث وقالوا إذا كانت الرحمة مخلوقة وهي صفة من صفات الله فهذا يدل على أن صفات الله مخلوقة.

إذا هناك ما يجعل بعض من لا علم عنده ولا يفقه هذه المسائل، تشتبه عليه هذه المسألة، لأنه فسّرت له على غير تفسيرها الصحيح.

وهو وإن كان لازم قول معطلة الصفات نفي وجود الله تعالى، إلا أنهم لا يلتزمون هذا اللازم، بل هم مقرون بوجود الله تعالى.

وأما إن كان تعطيله لصفات الله تعالى، وإعراضه عن الإقرار بها، ناشئ عن كِبرٍ عن قبول الحق، وتعصّب للباطل وأهله، من المشايخ والأصحاب، واتباع للهوى، فذاك الكافر حقا.

وبما أن الكِبر والتعصّب واتباع الهوى مسألة نفسيّة، لا يمكن معرفتها على وجه الدقّة، لم يمكن البتّ في الحكم بالمخالف في باب الصفات، حتى يجهر بذلك بلسانه، ويقر أنه يعلم أن الحق مع مخالفه ولكنه يريد أن يتبع كبراءه ومشايخه. 

وأما إذا لم يجهر بذلك بلسانها، فإن الحكم يبقى معلّقاً في حقه، بحسب نيّته، وعلى هذا فتجرى عليه أحكام الإسلام، ويٌنظر إليه على أنه مسلم.

ولكن شرط أن يكون مقراً بتوحيد الربوبية والألوهية، فإن لم يقر بهما أو أحدهما؟، فذاك المشرك حقاً ظاهراً وباطنا|ً.

إنما الخلاف والتردد في حق المقر بتوحيد الربوبية والألوهية والصفات المتعلقة بهما، ولكنه لزم التعطيل في باقي الصفات، وأبى الإقرار بصفات الله تعالى لِمَا عرضت له من شُبَه.

وفي باب الصفات تفصيل أخر، وهو:

أن المخالفين في باب الصفات على قسمين: هما: الممثِّلة والمعطلة.

والممثلة قسمان:

الأول: يمثّل صفات المخلوقين بصفات الله تعالى في كمالها الذي لا يستحقه إلا الله تعالى، وهذا لا يقع إلا من مشرك في الربوبية والألوهية، كاذبٌ على الله وعلى رسوله، وهذا مشرك وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد قدح وشرك في ربوبية الله وألوهيته.

والثاني: يمثِّل صفات الله تعالى بصفات المخلوقات بما فيها من كمال أو نقص، فهذا معذور بجهله، لأن علم كمال صفات الله تعالى، لا يدرك إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فإن أصر على قوله بعد البيان فقد كفر كفراً أكبر.

والمعطلة قسمان:

القسم الأول: من يزعم أن الله في كل مكان، ولكنه لا يقول بأن الله حال ومتحد مع خلقه، بل يفصل بينهما، ومن يزعم أن الله تعالى بلا مكان، ويحتجون بالآيات والحديث السابق، فهؤلاء معذورون بالجهل حتى تقام عليهم الحجة.

والقسم الثاني: وهم الحلولية، الذين يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه حال ومتحد مع خلقه، أو يقولون بأن الله تعالى هو الوجود والوجود هو الله، وهذا الاعتقاد لا يقع إلا من مشرك شركاً أكبر، فهذا كافر كفرا أكبر وإن لم تقم عليه حجة، لأن هذا المعتقد شرك في ربوبية الله وألوهيته.

والقسم الثاني من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف، هي: اللواط والزنا .. وإلى أخره، من الأعمال التي ذكرتها في حلقة المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

فهذا القسم لا يكفر فيه المخالف إلا بعد بلوغ الحجة مع الاستحلال، أي: زعم أنها حلال وليست حراماً.

فلو بلغته الحجة وفعلها ولكنه لم يستحل، اي: مقرّ بأنها حرام في كتاب الله وسنة نبيّه، ولكن لضعف نفسه، وغلبت شهوته، فعلها، فهذا لا يكفر، بل هو مسلم عاصٍ.

نأتي الآن إلى المسائل التي يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي من ناحية التكفير على قسمين:

القسم الأول: يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وإن لم يستحل المخالفة فيها تركها، وهذا ينحصر في الصلاة، دون غيرها من العبادات والشرائع. وفي ذلك أحاديث، وسوف نفرد في مسألة تارك الصلاة حلقة مستقلة إن شاء الله تعالى.

والقسم الثاني: لا يكفر حتى بعد إقامة الحجة عليه، إلّا إذا استحلّ المخالفة فيها، وهذا القسم، يشمل باقي العبادات مثل الزكاة والصوم والحج، وجميع الشرائع.

فلا يكفر المخالف فيها، حتى لو قامت عليه الحجة، إلا بعد الاستحلال.

أي أنه ينكر أنها فرض من الله تعالى، مع أنه أبلغ أنها فرض، وقرئ عليه القرآن والأحاديث النبويّة.

والسبب في تكفير جميع هؤلاء، هو أنهم مكذّبون بما جاء عن الله وعن رسوله، وحكم المكذّب لهما أنه كافر كفراً أكبر، عياذا بالله من الضلال.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

الأربعاء، 17 يناير 2024

المسائل التي يعذر فيها المخالف

إن كل مسألة لا تدرك إلا بالخبر عن الله وعن رسوله، فالمخالف فيها معذور، حتى يبلغه الخبر بذلك.

وبما أن علمها لا يدرك إلّا بالخبر، فبتالي يعذر المخالف فيها لو شبّه عليه فيها، أو نقلت له على غير وجهها الصحيح، أو لبّس عليه فيها بتحريف معاني الأدلة الشرعية، أو نقل له الخبر ممن لا يثق به.

وفي جميع هذه الحالات الأربع، يبقى الأمر معلّقاً بنيّة الشخص، وحرصه على اتباع الحق، فكل ما كانت نيّته أقوى وحرصه أشد، كان عذره أبلغ.

فإذا كان العبد يبحث عن الحق وينوي اتباعه وإن خالف هواه، وحريص على ذلك، ولكن أدركه الموت قبل أن يصل إليه، فهذا بإذن الله تعالى معذور، وغير مؤاخذ.

وأما من أعرض، ولم يأبه، كمن أكتفى أو آثر تقليد الآباء والمشايخ والكبراء، فهو محاسب على تقصيره.

وأوّل هذه المسائل: مسألة صفات الله تعالى، لأنك لا يمكن أن تعرف صفة الشيء حتى يبلغك الخبر بصفته.

هذا في المخلوقات التي تعيش معك على الأرض فكيف بالله تعالى، الذي لا يماثله شيء!

ولا استثني من الصفات شيء، إلا ما كان من علوّ الله تعالى، وكل صفة لها تعلّق بربوبية الله تعالى وألوهيته.

وهي: الحياة، والقوة، والقدرة، والعِلم، والخلق، والمُلك، والحكمة، والأمر والتدبير، والإرادة.

فثبات هذه الصفات معلوم بالفطرة، فمن أنكرها لم يقر بربوبية الله وألوهيته، وهذا هو الكفر الأكبر.

وأما باقي صفات الله تعالى، فمن جهلها، ولم تبلغه الحجة في ذلك، فهو معذور، وهذا أمر لا يحتاج لمثله دليل.

العقل الصحيح والفطرة السليمة هي الدليل عليه.

وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه، في عقيدته المشهورة: "لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة أن القرآن نزل به وصح عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر".

ثم عدد من تلك الصفات: السميع والبصير واليدين واليمين والوجه والقدم والضحك والهبوط إلى السماء الدنيا والأصابع.

وكذلك يعذر من علِم صفات الله تعالى، ولكن جهل كمالها الذي يستحقه الله تعالى، لأن الإنسان لعقله حدود لا يتجاوزها، فهو يبني أحكامه في نطاق قدراته العقلية، وأما ما تجاوز نطاق قدراته العقلية، فلا يمكن أن يعلمه إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله.

والدليل الشرعي على عذر من جهل كمال الصفة.

ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم، قال: كلمة: يعني - أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر - أو لم يبتئز - عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال: فاسحكوني -، فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها، فقال: نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، - أو فرق منك -، قال: فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها، فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: أذروني في البحر، أو كما حدث.

وقال ابن عبدالبر في التمهيد: "رُوي من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: "قال رجلٌ لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد".

وقد اجتهد بعضهم في تحريف معنى هذا الحديث فقال: بأن معنى قوله: "إن يقدر الله عليه" أي: يضيّق عليه، وقال بعضهم، إنما قالها في حالة ذهول وشدّة خوف، يريدون بذلك أن ينفو أن يكون هذا الحديث حجة في إعذار من جهل كمال صفة الله تعالى، لانهم يرون كفر من جهل كمال صفة الله تعالى، وإن لم تقم عليه حجة، أي أنها عندهم من المسائل التي لا يعذر فيها المخالف.

وتأويلهم هذا باطل، لأن الحديث يفسّر قول الرجل: "إن يقدر الله عليه" بأن معناها أنه يريد أن يفوت الله تعالى، بمعنى أنه ظنّ أن قدرة الله تعالى كقدرة خلق الله، فهو مثّل قدرة الله تعالى بقدرة خلقه، جهلاً منه، نجد ذلك بيّناً وواضحاً في طلب الرجل من ابناءه أن يحرقوه ويذروه في الهواء، حتى لا يستطيع الله جلّ وعزّ أن يقبض عليه ويحاسبه على معصيته.

ولا يعذر في ذلك، إلّا من جهل كمال الصفات التي يستحقها الله تعالى، مع إقراره بفارق الكمال بين صفات الله وصفات خلقه، وأما إن مثَّل صفات الله تعالى بصفات خلقه في الكمال والنقص، من جميع الوجوه، فهذا ممن جعل لله تبارك وتعالى مثلاء وأكفاء وأنداد، وبالتالي يعتبر من المشركين.

وثانيها: جميع العبادات، لأنه لا يمكن معرفة العبادات التي يريد الله منّا أن نتعبّده بها، وكيفية القيام بها، إلّا بالخبر عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: باقي الشرائع، وهي الحدود والأقضية والمواريث، ونحو ذلك، فهذه المسائل من المسائل التي يعذر فيها المخالف بعدم بلوغ الحجة.

وباختصار، فإن التفرقة بين ما يعذر فيه المخالف وما لا يعذر، مدركٌ بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فالناس بطبيعتها، تستطيع التمييز بين هذا وذاك.

المسائل التي لا يعذر فيها المخالف

وسوف أثبت ما أقول بالأدلة الشرعية بإذن الله تعالى

فأقول مستعينا بالله وحده.

أن المسائل الدينية على قسمين:

قسم يُدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وقسم لا يدرك علمه وحاله إلّا بالخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

فأمّا ما يدرك علمه وحاله بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فلا عذر فيه البتّة، لا بجهل ولا بغيره.

وهذه المسائل هي: الشرك في ربوبيّة الله تعالى أو ألوهيّته، لأن الإقرار بتفرّد الله تعالى بالملك والخلق والأمر والتدبير وأنه وحده المستحق للعبادة بمعناها الشرعي، فلا يدعى سوى الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه سوى الله سبحانه وتعالى، أمر ثابت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة.

وإذا كان هذا ثابتاً بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فإنه يثبت بالفطرة أنه لا يذبح ولا ينذر تقرباً للحصول على أمر لا يستطيعه إلا الله عز وجل، إلّا لله سبحانه وتعالى، لأن الذبح والنذر لغير الله تعالى، للتقرب له لجلب نفع أو دفع ضُرّ، لا يكون إلا باعتقاد أن هذا المذبوح له والمنذور له قادر على جلب ذاك النفع ودفع ذاك الضُرّ.

وكذلك كل عمل يثبت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أنه شرٌ وقبيح، في نفسك أو غيرك، لا عذر فيه.

سواء في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العِرض.

فأما في نفسك فمثل: الانتحار، وشُرب الخمر، وتناول المخدرات، ونحو ذلك.

وأما في غيرك، فمثل: القتل بغير وجه حق، واللواط، والزنا، ورجم المحصنات الغافلات، وأكل أموال الناس بالباطل، بأي وجه كان، بالغش والخداع والتحايل والسرقة والربا وقطع الطريق، والبهتان والغيبة والنميمة، وأذيّة الناس بأي نوعٍ من الأذى، والكذب، والخيانة، وسوء الأخلاق، ونحو ذلك.

فهذه أمور لا تحتاج فيها إلى مخبر ليخبرك بأنها أعمال شرّيرَة وقبيحة، بل هذا يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، لذلك لا عذر فيها لأحد.

ومع أن هذه الأمور من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى دليلٍ أصلاً، ولكن قطعاً لِمِقْوَل أهل الأهواء والبدع، سوف نورد بعض الأدلة الشرعيّة:

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.

رواه البخاري.

وفي رواية عند مسلم: - قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام.

فلو كان العبد معذورٌ بعدم بلوغ الحجة إليه في حرمة عمل هذه الأشياء، لما أخذ العبد بما عمل في جاهليّته، وإنما أُخِذ بما عمل في إسلامه، وبعد بلوغه الخبر بحرمة القيام بهذه الأعمال.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

رواه مسلم.

وقوله: "ماتوا في الإشراك" أي: ماتوا في زمن الشرك، في زمن الجاهلية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "متى مات هؤلاء". فهو يسأل عن زمن موتهم.

فهؤلاء ماتوا في زمن الشرك، في الجاهلية، وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو قبل بلوغهم دعوته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أخذوا بما عملوا في جاهليّتهم، ولم يعذروا بشيء من الأعذار، وعذبوا في قبورهم بسببها.

فتبيّن من هذه الأحاديث، بكل وضوح، أن ما يقع من العبد من شرور وقبائح، لا عذر له فيها البتّة.

فإذا كان هذا في القتل بغير وجه حق، أو اللواط والزنا، أو غير ذلك من الأعمال التي ذكرناها سابقاً، فكيف بالشرك الذي بطلانه، أوضح من بطلان تلك الأمور.

وإلا فهل يمكن أن تعتقد أن ملاكاً أو إنساً أو جِنَّاً، ميّتاً أو غائباً، أو صنماً أو حجراً أو شجراً، قادر على سماعك أو رؤيتك أو العلم بحالك، أو أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، في مسألة لا يقدر عليها عامة المخلوقات؟! 

طبعاً: الجواب، هذا لا يمكن اعتقاده، إلا أن تجبر وترغم نفسك على الإيمان بذلك، والمخالفة في ذلك، صحيح العقل، وسليم الفِطرة!

فإن قال مشرك: الله هو من وهبهم هذه المنزلة، وجعلهم شركاء له في الأمر والتدبير، ولأجل ذلك فنحن نصرف لهم الدعاء فيما يدعى فيه الله تعالى.

فالجواب: إن ما يدعونه لهذه المخلوقات، لا يأتي على بال، ولا يطرأ على فِكر، وإذا كان هذا كذلك، فهم مطالبون بأن يأتوا بنصّ من القرآن أو السنة، يجيز لهم هذه الأعمال، وإلا كان قولهم افتراء على الله تعالى وافتيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وما يحتجون به من الأحاديث، ليس لهم فيها حجّة، فجميع الأحاديث التي احتجوا بها، ليس في واحد منها جواز دعاء الأنبياء أو الأولياء أو المشايخ أو الجن أو الملائكة أو الأحجار أو الأشجار مع الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وليس في واحد منها، أن الله تعالى اشرك أحداً من مخلوقاته معه في ملكه وخلقه وأمره وتدبير وعبادته، 

وقد بينت ذلك في بحث بعنوان: وقفة مع الأحاديث التي يحتج بها الصوفية في جواز الشرك بالله تعالى في الدعاء والاستغاثة.

كيف والأدلة دالة بخلاف ذلك، فقد قال الله تعالى: ﴿ .. لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ .. ﴾ [الشورى ١١] وقال تعالى: ﴿وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾ [الإخلاص ٤] أي: لن يماثله أو يكافئه، شيء من مخلوقاته في كمال صفاته، لا هبة منه سبحانه لأحد من خلقه، ولا بالممارسة والرياضة، حُكْمٌ حَكَم به الله تعالى على جميع خلقه، ولم يستثني أحدا. 

وهذا الجواب كافٍ لرد شبهة من يزعم أن من وقع في الشرك قبل بلوغ الحجة معذور، وأنه ممن أسماهم: أهل الأعذار.

ولكن تأكيداً على بطلان قولهم، نأتي ببعض الأدلة الداعمة لقولي أعلاه.

فعن زيد بن أثيع، قال: سألت عليا بأي شيء بعثت؟ قال: "بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر".

رواه الترمذي والدارمي وابن أبي شيبة.

وقوله: "بأي شيء بعثت" أي: يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج مع أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع للهجرة.

وهذا الحديث صريح في أنه لن يدخل الجنّة إلا من مات مسلماً، وأما من مات على الشرك فلا حظ له في الأخرة.

وهذا دليل صريح على أن المشرك لا عذر له.

ويزيد ذلك بياناً، ما رواه ابن ماجه، بسند صحيح، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت.

رواه مسلم.

ومن المعلوم أن والديّ النبي ومن مات مشركاً قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، لم تبلغهم الحجة، ومع ذلك، فهم مخلّدون في النّار، عياذاً بالله.

ومن عجائب أهل الأهواء، أنهم يردون هذه الأحاديث الصحيحة بأحاديث أهل الأعذار، وأحاديث أهل الأعذار لا يصحّ منها شيء، فكيف يقدمونها على الأحاديث الصحيحة، بل ويبطلون الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة لأجلها!

وزعم بعض أهل الأهواء، أن الأحاديث التي ورد فيها أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، مخالفة لصريح القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء ١٥]

وهذا باطل، لأن تلك الأحاديث لا تتعارض مع الآية الكريمة، لأن الآية الكريمة، لا تفيد المعنى الذي ذهبوا إليه، وإنما المراد منها، أن الله تعالى، لا يحل عذابا عامّاً في الدنيا على أحد من خلقه، حتى يبعث رسولا، كما فعل بقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ یَبۡعَثَ فِیۤ أُمِّهَا رَسُولا یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾ [القصص ٥٩]

فتبيّن أن المراد بالعذاب في سورة الإسراء، إنما هو العذاب العام، الذي تهلك فيه القرى، وليس العذاب الأُخرَوي، الذي يوقعه الله تعالى على المخالفين يوم القيامة.

كما أنه لا يعني أيضا العذاب الخاص، الذي يوقعه الله تعالى على القرى، فيصيب بعضهم ويدع بعضهم، لأن هذا العذاب يقع وإن لم يبعث رسول، إذا كثر الخبث في الناس.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.