باب الصفات من أعقد الأبواب في مسألة التكفير.
وذلك لسببين:
الأول: أن التكفير فيه قائم على الرأي، لأنه لا يوجد نصّ صريح في كفر المعطلة أو الممثِّلة، كما هو الحال في تكفير المشرك.
والثاني: أن الصفات ليست على درجة واحدة في الحكم، فتجد العلماء يختلفون في تقدير الحكم على كل صفة، بناء على ما يرى هو من مدى خطورة المخالفة فيها.
وهناك معضلة أخرى.
وهي أني وجدت بعض من وقع في الشرك الأكبر والإلحاد في صفات الله تعالى، قد رجع عن الشرك، واقر بتوحيد الربوبية والألوهية، وفاء إلى الحق فيهمان ولكن بقيت عقدة التعطيل ملازمة له، ظناً منه أن التعطيل تنزيه لله تعالى عن صفات النقص، لأنه تأثر بأقوال المتكلمين من جهة، ولأنه يجد بعض الآيات والأحاديث تفيد هذا المعنى، ولم يهتد إلى تأويلها الصحيح، الموافق للغة العرب.
منهم المقريزي والشوكاني وشريعت سنكلجي والبرقعي، وغيرهم.
فقلت: لعل الله تبارك وتعالى لم يهدهم إلى الحق في باب توحيد الربوبية والألوهية، إلا وهو يريد بهم خيراً، وإن ضلّوا في باب الصفات.
ولذلك اجتهدت وِسْعِي في معرفة الحدّ الذي يكفر به العبد لو خالف في باب الصفات، فإن أصبت فالحمد لله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله واتوب إليه.
فأقول مستعيناً بالله وحده لا شريك به.
أن هناك صفات متعلّقة تعلُّقاً مباشراً بتوحيد الربوبية والألوهية، وهي: الحياة والملك والخلق والأمر والتدبير والحِكمة والعِلم والقوّة والقُدرة والإرادة.
فهذه الصفات، حكمها حكم توحيد الربوبية والألوهية، لا عذر فيها البتّة.
فالإنسان بعقله الصحيح وفطرته السليمة، يدرك أن له رباً، وهذا يستلزم إثبات صفة الحياة لله تعالى، وأنه مالك الكون وخالقه، وهذا يستلزم منه إثبات صفة الملك والخلق له، وعندما يدعو الله تعالى، يستلزم أنه مؤمن بأن الله تعالى يعلم بدعائه، وإن لم يعتقد بأن الله يسمع صوته ويرى صورته، ولكنه مؤمنٌ بأن الله يعلم بحاله بطريقة ما، وإلا لم يكن ليدعوه أصلاً، وهذا يستلزم إثبات صفة العِلم، وأن الله هو الآمر والمدبِّر في هذا الكون، وهذا يستلزم إثبات صفة الأمر والتدبير والحكمة لله تعالى، وإيمانه بأن الله تعالى يقوى ويقدر على إجابة دعائه، يستلزم إثبات صفة القوة والقدرة، وإيمانه بأن الله قد يستجيب دعاءه يستلزم إثبات صفة الإرادة.
فثبوت هذه الصفات، أمرٌ فطري.
فمن جحد صفة من هذه الصفات ونفاها عن الله تعالى، فهذا كافر كفراً أكبر، وإن لم تقم عليه حجة، لأنه بنفيه لها، لم يقر بتوحيد الربوبية والألوهية.
وأما صفة العلو، فمع أنه أمرٌ فطري، إلا أن نفيها عن الله عز وجل، ليس شركاً، ولا يلزم منه وقوع العبد في الشرك، ولذلك لا يكفر المخالف في هذه الصفة، إلا المعرضين، الذين عرفوا الحق في هذه المسألة وأعرضوا عنه، كِبراً وعصبيّة لمشايخهم وأصحابهم ومذهبهم الذي يعتنقونه.
وباقي الصفات حكمها حكم صفة العلو.
فكل من عطّل صفات الله تعالى، عدا الصفات المتعلِّقة تعلُّقاً مباشراً بتوحيد الربوبية والألوهية، فهو معذور بالجهل، ما لم يكن عالماً بالحق، معرضاً عنه.
فإن قيل: أن لازم قول المعطلة هو نفي وجود الله تعالى؟
فالجواب: أن لازم قول المعطِّل ليس بلازم، لأنه لم يلتزمه، بل هو مقرُّن بوجود الله تعالى.
ثم المعطِّلة على قسمين:
قسم يقول بأن الله في كل مكان.
وقسم يقول بأن الله بلا مكان ولا يعرف له مكان.
فأما أصحاب القول الأول، إن أرادوا بقولهم ذلك، أن الله تعالى متّحدٌ وممتزجٌ بخلقه، كما يتحد ويمتزج الملح في الماء، فكفّار، قولاً واحداً، لأنه لا يقول بهذا القول إلا مشرك في توحيد الربوبية واللوهية، لأنه يدعي أن الله حال في كل شيء، وبالتالي يجيز عبادة كل شيء.
وأما إن أرادو بقولهم هذا، أن الله تعالى في كل مكان من غير اتحاد في الأشياء أو امتزاجٍ بها، فهؤلاء لا يكفرون، بل هم مبتدعة ضالّون، وحكمهم، حكم من يقول بأن الله بلا مكان ولا يعرف له مكان، وحكمهما أنه معذور بالجهل، حتى يتبيّن منه معرفة الحق والإعراض عنه.
مع أن جميع القائلين بأن الله في كل مكان، يقولون بالاتحاد، وواقعون في الشرك الأكبر، فيما أعلم، ودعوى وجود من يقول بأن الله في كل مكان دون حلول أو اتحاد، هي مسألة افتراضيّة فقط.
والسبب في توسيع العذر للمعطلة، هو أن هناك آيات وأحاديث، قد يوافق ظاهرها قول المعطلة، كما أن كتب اللغة العربيّة قد عبث بها المتكلمون، فحرفوا في معاني بعض الكلمات، التي تخالف معتقدهم، كتحريفهم لمعنى استوى باستولى، ولذلك كانت الشبهة حقاً في هذه المسألة قويّة، فلم يكفر بها سوى من عرف الحق وأعرض عنه.
وللتنبيه، أن وجود معطِّل موحِّد في الربوبية والألوهية، هو شيء نادر، وحالة شاذّة، فالسائد في المعطلة أنهم مشركون، وهذا غالبٌ عليهم، ولذلك تجد أكثر المتكلمين، صوفية قبورية، ورافضة قبورية.
هذا في شأن المعطلة.
أما المُمَثِّلة، فيعرفون بالمُشَبِّهة، وهي تسمية خاطئة، والصواب أن نسميهم بما سماهم الله تعالى به، وهم: الممثِّلة، كما قال تعالى: ﴿ .. لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱ .. ﴾ [الشورى ١١] ثم إن الشبهة واقع بين صفات الله تعالى وصفات خلقه عز وجل. فالتشبيه حق لا مرية فيه، ولا يماري فيه إلا الزائغون.
والممثِّلة قسمان:
قسم يمثّل صفات المخلوقات بصفات الله تعالى من حيث الكمال، وهذا لا يقع إلا ممن وقع في الشرك الأكبر. بحيث يرى أن المخلوق سواء كان نبيا أو جنيّا أو ملاكاً أو حجرا أو شجرا، قادر على لاكل ما يقدر عليه الله تعالى. فيصرف له الدعاء والذبح والنذر والصدقة، فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقسم يشبٍّه صفات الله تعالى بصفات خلقه من حيث الكمال، بحيث يجعل صفات الله كصفات الخلق، بما فيها من نقص، وهذا الصنف، على قسمين:
قسم يشبه صفات الله تعالى بصفات خلقه من جميع الوجوه، دون أدنى تفريق بينها في الكمال، وهذا ممن جعل لله تعالى مثلاء وأكفاء وأنداد، فهو مشرك شركاً أكبر.
وقسم، يشبه صفات الله بصفات خلقه، بما فيها من نقصه، ولكن يجعل هناك فارق بين قوة الخالق سبحانه وقدرته، وبين قوة المخلوق وقدرته، وهذا الصنف معذور بجهله، لأن كمال صفات الله تعالى، لا تدرك بالعقل أو الفطرة، بل تدرك بالخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك حديث المحرِّق نفسه، وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
ففي الحديث الصحيح أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "قلت: مهما يكتم الناس، فقد علمه الله؟ قال - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - : نعم".
وفي بعض الروايات أنها قالت: "قلت: مهما يكتم الناس، فقد علمه الله، نعم" فجعل قول: "نعم" من كلام عائشة، كأن سؤالها سؤال تقريري.
والذي عليه أكثر الروايات، أن قائل نعم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن سؤالها كان سؤال استفهام وتعجّب.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.