اعلم أنك لا تحتاج في إقامة الحجة على المخالفين، في المسائل التي تحتاج إلى إقامة حجة، إلى أن تشق القمر نصفين، أو تفرق البحر فرقتين.
كل ما يلزمك لإقامة الحجة على المخالف، هو أن تبيّن له الأدلة من القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنه ليس هناك كلام أوضح وأبين وأكمل وأبلغ وأجمل من كلام الله تعالى، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكيف لا يكون ذلك، وقد أنزل الله كتابه نوراً وهدى للناس وشفاء.
ومن لم يؤثِّر فيه كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يؤثر فيه كلام غيرهما.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "و الذي نفْسُ محمدٍ بيدِهِ ، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ ، لا يهودِيٌّ ، و لا نصرانِيٌّ ، ثُمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به ، إلَّا كان من أصحابِ النارِ".
رواه مسلم.
ومن الأدلة على ذلك، ما روي أنس بن مالك أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعي معزى.
رواه مسلم.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغير على المشركين، مع أنه لم يبعثهم لهم رسول، لما فشا خبر الإسلام، فبمجرد سماعهم بخبر الإسلام قامت عليهم الحجة، غذ كان يلزمهم أن يهتموا لذلك، كما يهتمون لأمور دنياهم، ولكنهم لم يفعلوا، فكانت الحجة قائمة عليهم بذلك.
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن مجرّد السماع كافٍ في بلوغ الحجة.
وهذا إنما يكون فيما لا يمكن إدراكه إلا عن طريق السمع، أي: بالخبر عن الله أو عن رسوله.
وفي حديث أنس بن مالك، فائدة نفيسة، وهو في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذن: "على الفطرة" فدلّ هذا على أن دين الفطرة هو دين الإسلام، ذين التوحيد، وفي هذا رد على الجبرية والمجبلة.
إلا إن كان هناك شبهة شُبِّه بها عليه أهل الجهالة، فعليك أن تكشف له هذه الشبهة، ببيان الحق فيها.
مثل شخص أوِّلت له آيات أو أوِّل له أحاديث على غير تأويلها، فيلزمك أن تبيّن له التأويل الصحيح، مستنداً في ذلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
فإن خالف بعد البيان، كان معانداً، وتبيّن زيغه وضلاله.
وهذا إنما يكون في الآيات والأحاديث التي تشتمل على مفردات وعبارات يمكن للمبتدعة أن يحرّفوا معناها، ويتأولونها على غير تأويلها، وهي قليلة في القرآن والسنة.
عن محارب بن دثار , أن أناسا شربوا بالشام الخمر , فقال لهم يزيد بن أبي سفيان: شربتم الخمر؟ قالوا: نعم , بقول الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية. فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب , فكتب إليه: إن أتاك كتابي هذا نهارا , فلا تنتظر بهم إلى الليل , وإن أتاك ليلا , فلا تنتظر بهم نهارا , حتى تبعث بهم إلي , لئلا يفتنوا عباد الله. فبعث بهم إلى عمر , فشاور فيهم الناس , فقال لعلي: ما ترى؟ فقال: أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه , فإن زعموا أنها حلال , فاقتلهم , فقد أحلوا ما حرم الله , وإن زعموا أنها حرام , فاجلدوهم ثمانين ثمانين , فقد افتروا على الله. وقد أخبرنا الله عز وجل بحد ما يفتري بعضنا على بعض.: فحدهم عمر ثمانين ثمانين.
رواه ابن قدامة في المغني، عن الخلال في مسائله.
فانظر كيف أن عمر لم يسقط عنهم العقوبة مع كونهم كانوا مخطئين في تأولهم، بل ولم يعذرهم، لأنهم خالفوا الحق مع تمكّنهم من الوصول إليه.
والشاهد من هذا الخبر، أنه اكتفى بإقامة الحجة عليهم بإبلاغهم الحق في ما أخطئوا فيه، فأين هذا ممن يزعم أنه لو قرأ القرآن وقرأت السنة ورفعت الشبهة عن المخالفين، فيبقون معذورين إما بالجهل أو الاجتهاد!
وأما في توحيد الربوبية والألوهية، فلا توجد مثل هذه الآيات والأحاديث، ولا يستطيع أحد أن يحرف معناها، أو يبدل مبناها، فلا يقال بأن المشرك معذور من هذه الناحية.
وإن كان المخالف قد كُذِب عليه في معنى كلمة عربيّة، فقام أهل الضلالة بتحريف معنى كلمة عربيّة لكي لا تتعارض مع أهوائهم وبدعهم وضلالاتهم، بُيِّن للمخالف حقيقة الأمر، وأن هذا المعنى ليس من معاني تلك الكلمة العربيّة، وإنما هذا من وضع الوضاعين، ورويت له الروايات الدالة على ذلك.
وهذا إنما يكون في باب الصفات، عندما حرّف المتكلمون معنى الاستواء، فقالوا: استولى أو غلب وقهر، وهذا مالا تعرفه العرب من كلامها. وقد ورد عن أئمة اللغة تكذيب ذلك، فيُبيَّن للمخالف ذلك.
والمخالفة في باب الصفات عظيمة، ولكن لما كان هناك من الىيات والأحاديث ما يستطيع الزنادقة التشبيه بها على الناس، والتلبيس بها عليهم، وسّع العلماء العذر لهم.
كمن يحتج بقوله تعالى: "وهو معكم أينما كنتم" وقوله: "وهو اقرب إليه من حبل الوريد"
وهذه يحتج بها من يقول بأن الله في كل مكان، شرط أن لا يعتقد أن الله حال ومتحد في خلقه، لأن من يعتقد ذلك، قد خرج عن الحد المعقول لتأويل هذه الآيات.
مع أن من قرأ القرىن دون أي تأثير خارجي، يعلم أن المراد بهذه الآيات معيّة العِلم، لا معيّة الذات.
ولو قلنا بأنه يدخل في هذه الآيات معيّة الذات أيضاً، فقولٌ صحيح، لأن الله تعالى فوق العالم، وأكبر من العالم، وكل شيء قريبٌ منه، ليس هناك شيء بعيدٌ عن متناول يده.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَومَ خَلَقَها مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، وأَرْسَلَ في خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً" اهـ
وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره.
فالمعطل الذي لم يكن تعطيله عن إصرار على الباطل، يأخذ بهذا الحديث، في أن صفات الله مخلوقة، لأنه إذا كانت رحمة الله وهي صفة من صفاته مخلوقةً بنصّ هذا الحديث، فإن باقي صفاته مخلوقة قياساً عليه.
فإذا أردت أن تتأول له الحديث، على ضوء الآيات والأحاديث الصحيحة الأخرى، التي تثبت أن صفات الله ليست مخلوقة، سوف يقول لك: انت تستخدم التأويل، وتضع للحديث معنىً يخالف ظاهره.
فلا يسعك عندئذ إلا أن تعذره بقوة الشبهة، ومن لا يعذر الناس عندما تتوفر دواعي الإعذار المقبولة شرعا وعقلا، فلا خير فيه.
وباب الصفات نستطيع أن نجعله حالةً استثنائية، لما قدّمت لكم من أن الشبهة فيه قويّة، كون هناك من الىيات والأحاديث ما يحتمل ظاهرها قول المعطلة.
وهذا إنما يكون في المقلدين، أما من أسّس هذه البدعة أي بدعة التعطيل أول الأمر، وانتصر لها، أو من علم الحق فيها وأعرض، فلا عذر له، والحجة قائمة عليه.
إلى هنا يكفي في إقامة الحجة على المخالفين.
ولكن إن زدت على ذلك، أن تنقل له فتاوى أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين، للاعتضاد لا للاعتماد، كان أمراً حسناً، وقويت الحجة على المخالف.
وإن كان المخالف قد كُذِب عليه، فنُسِب لأئمة السنة من البدع ما لم يبتدعوه، ومن الأقوال ما لم يقولوه، وجب عليه بيان كذب هذه الروايات، وأنها موضوعة عليهم وليست من قولهم، ويأتي من أقوالهم المسندة بالأسانيد الصحيحة والمقبولة ما ثبت أنهم عليه من اتباع الكتاب والسنة، والعقدية الصحيحة في العقائد.
وبالتالي تكون الحجة قد قويت عليه أكثر فأكثر.
فإياكم أن تنخدعوا بأقوال أهل البدع والزيغ والضلال.
لأنه ثمة من ينتسب إلى المدرسة السلفية، ويزعم أنه لو قرأ القرآن والسنة على المبتدعة والعصاة لم تقم عليهم بهما الحجة، بل زاد على ذلك بأن قال: بأنه حتى لو كشفت عنهم الشبه لا يزالون معذورين بالجهل أو الاجتهاد!
فعند هؤلاء الضلّال، لا تقوم الحجة على المخالف حتى تقوم ناقة صالح.
وباختصار فإن القرآن والسنة كافيتان في إقامة الحجة على المخالف، وتزداد الحجة قياماً على المخالف، بكشف الشبهة عنه.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.