سبق وأن تحدثت عن مسائل التكفير، ولكن هنا تنبيه هامّ لا بدّ منه، وهو:
أني لم أجد النبي صلى الله عليه وسلّم حذّر من شيء كما حذّر من التكفير بغير حقّ.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما".
رواه البخاري.
وروي عن أبي هريرة مثله.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يرمى رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك”
رواه البخاري.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لعن المؤمن كقتله, ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به في الآخرة, وليس على رجل مسلم نذر فيما لا يملك, ومن رمى مؤمنا بكفر, فهو كقتله".
رواه البخاري.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ ) ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: ( بَلِ الرَّامِي )" .
رواه البخاري في التاريخ الكبير والبزار في مسنده.
بينما لم أجد النبي حذّر من الحكم على شخصٍ كافر بالإسلام.
فلإن يخطئ أحدنا في الحكم بإسلام رجل وقع في الكفر، خيرٌ له من أن يخطئ في الحكم على رجل مسلم بالكفر.
وأنا لا أقول: كونوا مرجئة، ولا أقول: أحكموا بإسلام من ثبت كفره!
ولكن بعض مسائل التكفير واضحة وضوحاً لا لبس فيه، حتى أن الصبي يستطيع الحكم فيها.
ككفر المشرك المدعي للإسلام، وكتارك الصلاة بالكلية.
فهذه مسألة واضحة، ورد النص الشرعي بالبتّ فيها.
بينما بعضها خفيّ، ويحتاج إلى تمعّن وتبصّر وتشدّد قبل البتّ في الحكم فيه.
لأن التكفير فيها قائم على الرأي.
والمدرسة السلفية ابتليت بطائفتين: المرجئة والخوارج،
فالمرجئة هم: الجامية.
بينما السرورية جمعت بين مذهبي المرجئة والخوارج.
ونشأت من ضئضي السرورية، جماعة كفرت الجامية والسرورية ايضاً.
فالمرجئة جرتهم بدعتهم حتى حكموا باسلام المشركين الذين وقعوا في شرك الروبية والألوهية، واسموهم مسلمين متلبسين بشرك،
وحكموا بإسلام الملحدين القائلين بأن الله حالٌّ ومتّحدٌ مع خلقه، مع أنهم مشركون،
بأعذار وضعوها لهم، بعضها حق، ولكنهم وضعوها في غير مواضعها، وبعضها باطل بنصّ القرآن والسنة!
والخوارج أوقعوا الكفر على من يستحق ومن لا يستحق،
حتى كفر بعضهم بالتسلسل،
وحتى بلغ ببعضهم الأمر، أن كفروا أئة السنة أحمد والشافعي ومالك، بروايات مكذوبة عليهم،
ثم هم أساساً لم يتعلموا بأن بعض الأقوال كفر إلا من هؤلاء الأئمة الكبار،
فارتدوا عليهم يكفرونهم بأدنى الشُبّه. وكأنهما يبحثون عن شيء يكفرونهم به!
عته وسفه، وذهاب عقلٍ، وعمى بصيرة.
فالمسلم السُنّيّ يتبع الكتاب والسنّة، والعقل الصحيح والفطرة السليمة،
وما أوضح مسألة التكفير وأبينها لمن أراد الحق فيها، وتجنب العبودية للهوى، وشفاه الله من مرض القلب، والعته والسفه وذهاب العقل وعمى البصيرة!
والتكفير أمرٌ قد انتشر بين المذاهب، حتى المبتدعة، فكل فرقة يكفر بلعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ليس هذا حكراً على المنتسبين للمدرسة السلفية!
وإن كان أهل السنة والجماعة (السلفيون حقاً وصدقاً، لا شراذم المرجئة والخوارج) يُكفِّرون، فإنما يكفرون من كفره الله ورسوله، بالدليل الشرعي.
بينما أهل البدع والفرقة، يكفرون غيرهم، لمجرد أنه خالف أرائهم وأهوائهم.
نسأل الله العافية والسلامة.
فعلى المسلم أن يكون حذراً في مسائل التكفير أشدّ الحذر، وأن لا يكفِّر إلا في أمرٍ واضح جليّ.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.