مسألة تارك الصلاة، من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم، هل يكفر تارك الصلاة الذي لم يستحل تركها أو لم ينكر أنها فرض من الله تعالى، أم لا يكفر؟
مع إجماعهم، على أن من ترك الصلاة جاهلاً بأنها فرض من الله تعالى، لا يكفر. لأن الصلاة ليست من المسائل التي تثبت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، بل تثبت بالخبر عن الله أو عن رسوله.
وإجماعهم، على أن من تركها استحلالاً لتركها، أي يقول: يحلّ لي أن لا أصلي، وليس عليّ في ذلك إثم، وزعم أنها ليست فرضٌ من الله تعالى، وبعد بلوغه الحجة بأنها فرض من الله تعالى، فهو كافر كفراً ينقل عن الملّة، والسبب في تكفيره، أنه مكذِّب بالقرآن وصحيح السنة النبويّة.
لكن الخلاف، فيمن تركها عامداً عالماً بأنها فرضٌ من الله تعالى، ولكنه لم يستحل تركها، ولا أنكر أنها فرض من الله بعد بلوغه الحجة، وإنما تركها تهاوناً وكسلاً.
فلما رأيت ذلك، أزمعت أن أجمع ما روي في هذا الباب، ثم استنباط الحكم من الأدلة الشرعية مباشرة، ودون واسطة.
فأقول مستعيناً بالله وحده:
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
صحيح.
عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة".
صحيح.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أن النبي ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"
صحيح.
قلت: وحشر النبي صلى الله عليه وسلم لتارك الصلاة في زمرة قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، دليل على أن كفره من جنس كفرهم، وهو الكفر الأكبر، وإلا لكان محشوراً مع غيره من عصاة المسلمين، الذين سوف يلجون النار، لو كان تركه للصلاة ليس كفراً أكبر.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار"
صحيح
قلت: وفي هذا الحديث، يتبيّن لنا، أن تارك الصلاة حلال الدم، لأنه على قول من قال بأن الشهادتين تكفي في الحكم على العبد بالإيمان والإسلام، لما أغار النبي صلى الله عليه وسلم، بمجرد أنه لم يسمع الأذان، ولبعث إليهم يسألوهم: هل يشهدون الشهادتين أم لا!
وعن عثمان بن أبي العاص، أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يحشروا، ولا يعشروا، ولا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكم أن لا تحشروا، ولا تعشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع».
حديث صحيح.
فلم يرخّص النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف أن يدعوا الصلاة، مع أنه رخّص لهم في ترك الجهاد والزكاة، تألُّفاً لهم، وقد قدّر النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم بعد أن يألفوا الإسلام، سوف يجاهدون ويزكّون.
وعن المسور بن مخرمة، أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". فصلى عمر، وجرحه يثعب دما.
صحيح.
وعن عبدالله بن مسعود قال: "من لم يصلّ فلا دين له".
صحيح.
قلت: وهذا فيه بيان جليّ، على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود، يريان كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وهذا يعضد القول، بأن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، محلّ إجماع من الصحابة.
وعن عبدالله بن شقيق رحمه قال: "كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".
وفي رواية عند الخلّال: "ما علمنا شيئاً من الأعمال قيل تركه كفر إلا الصلاة".
وقوله: "ما علمنا" يريد به نفسه ومن عاصره من زملائه من التابعين، ومشايخه من الصحابة رضوان الله عليهم، فلو كان هناك خلاف في تارك الصلاة لعلمه.
ويشهد على كفر تارك الصلاة، أن الله تبارك وتعالى لم يأذن لأحد بتركها، وإن كان على فراش الموت، حتى لو يومئ لها إيماءً ويصلِّي إشارةً. ولم يرخّص لأحد في تركها، كما رخّص في الزكاة والصيام والحج.
فجعل الصلاة صنو التوحيد. فكما أن التوحيد لا يرخّص لأحد في تركه، فكذلك الصلاة، لا يرخّص لأحد في تركها.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، حكم بأن قتال المسلم كفر، وبأن شرب الخمر كفر، مع أنه يريد بذلك الكفر الأصغر.
فالجواب: تلك الأحكام، ورد في الشرع ما بيّن أن المراد بالكفر فيها هو الكفر الأصغر، ولم يرد مثل ذلك في شأن الصلاة، فالحكم على ظاهره، بل إن سياق الأحاديث يقطع بأن المراد بالكفر والشرك هو الكفر والشرك الأكبر.
فثبت بذلك، أن من لا يصلي أو كان أكثر وقته لا يصلي، لان حكمه حكم من تركها إطلاقاً، فهو كافر كفراً أكبر ينقل عن الملّة، مستحلّاً كان أو غير مستحلّ، لان النصوص الشرعية لم تقيّد هذا الحكم أو تخصّصه، ويستتاب، فإن تاب وإلّا ضربت عنقه على الرِدّة.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة، ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فان الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".
فهذا حديث ضعيف الإسناد، ولكن ضعفه يسير، وقد رواه أحمد بن حنبل، ولم يأخذ به كثير من أئمة السنة وحكموا أن من ترك صلاة واحدة فقط خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعليه التوبة وتجديد إسلامه، والأخذ بالحديث الضعيف ضعفاً يسيراً خيرٌ من أراء الرجال.
وفي هذا الحديث، دليل على أن من كان أكثر وقته يصلّين ولكن يدعها أحياناً تهاوناً وكسلاً، أنه لا يكفر، بل هو عاصِ ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.
وبعض أئمة السنّة غلا حتى قال من تركها حتى يخرج وقتها من غير عذر فهو كافر! وهذا باطل ترده النصوص الشرعية.
والدليل على ذلك:
عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة".
رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".
رواه مسلم.
وقوله: "ويخنقونها إلى شرق الموتى" استظهر بعضهم أن المراد بذلك، أنهم يؤخرونها عن وقتها المختار، لا أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها.
والجواب: أن وقت الصلاة المختار، هو ما حدّده النبي صلى الله عليه وسلم في ما روي عنه من الأحاديث، فلو كانوا يؤخرونها إلى أخر وقتها، لما كان عليهم في ذلك لوم ولا إثم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وابن مسعود أن يصلوا منفردين في بيوتهم في وقت الصلاة، ثم يصلوا مع أولئك الأمراء، ويحرمهم فضيلة صلاة الجماعة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يؤخر الصلاة أحياناً لآخر وقتها.
فهذه العبارة، إن كانت من قول النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فله معناً غير ما ذكره الشرّاح.
والراجح عندي، أن هذه العبارة، زيادة من ابن مسعود، لانه لم يتخيّل أن ياتي قوم يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، لذلك ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنهم يؤخرونها عن أوّل وقتها إلى أخره، لذلك زاد ابن مسعود هذه العبارة في الحديث، كشرح لمراد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كما ظن ابن مسعود.
والدليل على ذلك، أن هذه الزيادة لم ترد في حديث أبي ذر، بل ما ورد في حديث أبي ذر، يثبت أن المراد، أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها بالمرّة، وهذا دليل أخر، على بطلان هذه الزيادة في حديث ابن مسعود.
فحديث أبي ذر وحديث ابن مسعود، يثبت أن مؤخري الصلاة عن وقتها حتى يخرج وقتها كفاراً، لما صحّت الصلاة خلفهم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة خلف كافر، بل لنهاه عن ذلك، وأخبرهم بأنهم ارتدوا عن الإسلام.
وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما قال: "من قال أصلي غداً فهو أكفر عندي من حمار".
بل إن إسحاق بن راهوية تمادى، عندما قال: "قد صح عن رسول الله أن تارك الصلاة كافر" ثم قال: "وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر، حتى يذهب وقتها؛ كافر".
فقوله: أنه صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وأن هذا رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومه، صحيح.
وأما قوله: "حتى يذهب وقتها كافر" فهذا الخطأ البيّن، والقول الذي لا أساس له من الصحة، وقد بيّنت الأحاديث الدالة على بطلان هذا القول.
بل إن الإمام الشافعي، صرّح في كتابه الأم، بأنه ليس بكافر، فقال: "لو أن رجلاً ترك الصلاة حتى يخرج وقتها كان قد تعرض شراً إلا أن يعفو الله".
فقول الشافعي: "إلا أن يعفو الله" دليل على أن تارك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها، ليس بكافر عنده، بل هو عاص، وتحت مشيئة الله تعالى، فتبيّن بذلك بطلان قول ابن راهوية، في ادعاءه الإجماع على ذلك.
فهذه أدلة على أن من أخر الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وإن كان متعمداً.
وقد احتج بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بالكليّة، بأحاديث:
أولها: حديث عبادة بن الصامت قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة"
صحيح.
قلت: وهذا الحديث بهذا النص سقط منه حرف، يدل على هذا ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها أحمد وأبو داؤد جاء فيها ما نصه: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ".
فقوله: "لم يضيع منهن شيئاً". وقوله: "مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ". ليس المراد به تارك الصلاة، وإنما المراد به من انتقص من شروطها أو أركانها أو واجباتها، فذلك عاصٍ مستحقٌ للعقوبة، كما أن في هذا الحديث دليل على أن من أخر الصلاة عن وقتها، فليس بكافر، إنما هو عاصٍ، خلافاً لمن قال بكفره من أئمة السنة.
والثاني: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها فقال له صلة - رجل من أصحاب حذيفة - : ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا".
قلت: والجواب: أن هذا الحديث إنما يعني طائفة مخصوصة في وقت مخصوص، قومٌ جهّال، لم يرثوا عن أسلافهم من العِلم، سوى كلمة التوحيد، فهو يقولونها ويؤمنون بها ولا يشركون مع الله إلهاً أخر، والأحاديث السابقة الواردة في كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، دلّت على هذا المعنى في هذا الحديث.
والثالث: حديث أبي سعيد الخدري في الشفاعة، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" .. الحديث.
قلت: والجواب في هذا الحديث، كالجواب في سابقه، قومٌ جهّال، لم يرثوا عن أسلافهم من العِلم، سوى كلمة التوحيد، فهو يقولونها ويؤمنون بها ولا يشركون مع الله إلهاً أخر، وهم مع هذا أهل معاصٍ وآثام وذنوب كثيرة، فغيرهم، وإن كان أهل معاصٍ وآثام وذنوب كثيرة، إلا أن لهم أعمال صالحة عجّلت بخروجهم من النار، وهؤلاء ليس لهم أعمال صالحة، فكانوا أخر من أُخرِج من النار.
نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
وبهذا لا يكون هناك تعارض بين الأحاديث، بل هي متّفقة مؤتلفة، والجمع بينها متيسّر.
والله اعلم وأحكم.