الأربعاء، 24 يناير 2024

مسألة تكفير من لم يكفر الكافر

في هذه الحلقة إن شاء الله سوف نتكلم عن مسألة تكفير من لم يكفر الكافر.

وهذا الحكم، وهو تكفير من لم يكفر الكافر، أطلقه بعض أئمة السنة المتقدمين، ويريدون بالكافر هنا: الجهمية ومن لفّ لفيفهم.

وهذه المسألة وقع حولها شغب كثير وخلاف كبير.

فمن الناس من رفضها وابطلها.

ومن الناس من طغى في الحكم بها، فبلغ به الأمر أن كفر بالتسلسل، فكفر الجهمي، وكفر من لم يكفّره، وكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر، وكفر من لم يكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر .. إلخ.

ومن الناس من قال نقف عند ما وقف عليه السلف، وهو تكفير من لم يكفر الكافر، ولا نتجاوز ذلك، فلا نكفر من لم يكفر من لم يكفر الكافر.

ولعلّي هنا إن شاء الله أبيّن لكم حقيقة الأمر وجليّته، في هذه المسألة.

فأقول مستعيناً بالله وحده، ومتوكلاً عليه، ومفوضاً إليه أمري كله.

أن القول بتكفير من لم يكفر الكافر ليس قولاً مجمعاً عليه من أئمة السنة، ومن زعم ذلك فقد كذب.

فقد روى البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ما نصّه: "قال أبو عبد الله: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"" اهـ

فهذا الإمام أحمد لم يكف رمن لم يكفر الكافر، بل اكتفى بالحكم بجهله.

وهذا الإمام البخاري، ينقل ذلك عن الإمام أحمد متابعاً له وموافقاً له.

فهذان إمامان من كبار أئمة السنة، لا يكفران من لم يكفر الكافر.

فيظهر لنا وبجلاء، أن مسألة تكفير من لم يكفر الكافر، ليست مسألة مجمعاً عليها، بعضهم كفر وبعضهم لم يكفر.

والصواب مع من لم يكفّر، لأن من لم يكفر إنما احتاط للأمر حيطته، لأن من لم يكفر الكافر، إنما خفيت عليهم الحكمة من تكفيره، كونه يدعي الإسلام، ويظهر شعائر الإسلام.

وإذا ثبت أن الجهمي نفسه لا يكفر إن كان جاهلاً حتى تقام عليه الحجة، كما نقل عن بعض السلف، بمعنى أن الجهمي لا يكفّر إلا بعد ثبوت إدانته، وإعراضه عن الحق، فكيف بمن لم يكفره! الذي لم يجمع أئمة السنة المتقدمين أنفسهم على تكفيره، هذا أبعد عن الكفر.

وأيضاً لنفترض أن رجلاً عاش في بيئة صوفية وثنية أو شيعية وثنيّة، ولكن هذا الرجل، لصِحَّة عقله، وسلامة فطرته، لم يقبل الشرك الذي عليه قومه، وهو يرى علماء قومه وأهل بلده يفتون بجواز الشرك، وأنه قربة إلى الله، وأنه ليس الشرك الذي نهى الله عنه، كما هي عادة أهل الباطل في التلبيس والتدليس على الناس.

فهذا الرجل، لم يستسغ هذا الشرك، وهو يرى فيه شبهاً من شرك المشركين، ولكن لجهله، لم يتبين له أن فاعل ذلك مشرك شركاً أكبر، وخارج من الإسلام، فلم يحكم بكفر قومه، ولا حتى ببطلان هذا العمل، ولكنه أبا أن يفعله، وقال: أنا لن أعبد إلا الله تعالى، وحده لا شريك له.

فهل نقول عن مثل هذا بأنه كافر لأنه لم يكفر الكافر؟

والجواب: بالنسبة لي هذا ليس بكافر، بل مسلم موحِّد، لأنه جاء بالتوحيد وآمن به، وهو الشرط الذي اشترطه الله علينا للنجاة من النار.

ولذلك أقول: أن قول أئمة السنة المتقدمين : "من لم يكفّر الكافر فهو كافر" لا بد أن يكون لها ضابط يضبطها، وبعد تمعّنٍ طويل في هذه المسألة، رأيت أنها لا تنطبق إلا على من توفَّر فيه شرطان:

الشرط الأول: أن لا يكون جاهلاً، ولم يهتد إلى الحق في هذه المسألة، ولم يبيّن له أحد، وأن تقام عليه الحجة، ببيان الأدلة الشرعية، في أن ما يقوم به الكافرون ممن يدعون الإسلام هو الكفر الأكبر، وأنهم كفّار بذلك.

والشرط الثاني: أن لا يعتقد بعد البيان بأن هذه الأعمال الكفريّة كفر، أي: يرى أنها من الإسلام، وأنها مشروعة، وإن زعم بعد بيان الأدلة بأن هذا العمل ليس كفراً أكبر، فهو معاند، وحكمه حكم الكافرين، لأنه يجيز الكفر الأكبر مع علمه ببطلانه.

فإن اختّل أحد الشرطين، لم يحكم على من يكفر الكافر بأنه كافر. 

بل يحكم عليه بأنه ضال.

ومثال ذلك: أن رجلاَ جاهلاً، قال: أنا لا أعلم هل هذا الفعل كفرٌ أكبر أم لا، وهل هو مشروع أم لا، ولكن ظنّي أنه ليس بمشروع، وهو يشبه فعل الكفار، ولا أحكم على من فعل ذلك بالكفر، وأنا لا أفعله، ولا أقول به، ولا أعتقده، وسوف ألتزم بالتوحيد.

فهذا نقول لا يكفر لأنه لم يكفر الكافر، لأنه جاء بالتوحيد، مع جهله بحقيقة حال هؤلاء القوم، وأن الشرك الذي هم واقعون فيه هو الشرك الأكبر ، وأنه من جنس الشرك الذي وقع فيه مشركو العرب قبل الإسلام.

ومثال أخر: لو أن رجلاً قال: أنا أعلم أن ما يقوم به الشيعة والصوفية من عبادة غير الله كفر أكبر، ولكني أتورّع عن تكفيرهم لأني أجدهم يشهدون الشهادتين، ويقومون بأركان الإسلام الخمس.

فهذا نقول لا يكفر لأنه لم يكفر الكافر، فقد أقر بأن ما عليه القوم كفر أكبر، كما أنه جاء بالتوحيد، الذي هو شرط النجاة يوم القيامة بإذن الله تعالى.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم.